لا يكاد يمضي يوم حتى يتم بعثرة أرشيف حساب مغرد من المغردين على حين غفلة من صاحبه، فإذا عاد إلى (السوق)، ورأى بضاعته الرديئة ملقاة على جانبي الطريق ضاقت به الحيلة بما وسعت، فيفزع إلى الحذف تارة، وإلى الإنكار تارة أخرى، وربما لجأ إلى حبكة درامية فأعلن بأن حسابه قد تمت سرقته في ساعة من ليل أو نهار، وربما لجأ إلى إقفال الحساب ولاذ بالصمت الطويل، هذه القصة تكاد أن تتكرر كل يوم، وتصغر وتكبر بحسب حضور وفاعلية هذا (الحساب المبعثر) أو بحسب موقع صاحب الحساب ومركزه، ولا يعنينا في هذه القصة المتكررة ما هي هذه الحسابات التي تصطاد ضحاياها بعناية؟ ولماذا لا يفصح أصحابها عن أسمائهم؟ كل هذا لا يهم فهو تصرف قد يحمدهم عليه قوم، ويذمهم آخرون، والذي يهمنا بالفعل هو إثبات صحة هذا التحول الفكري لهذه الحسابات (المبعثرة)، وكيف يمكن لنا أن نتأكد من مصداقية هذا التحول من عدمه، وبناء عليه يمكن لنا أن نصحح تصرفات هذه الحسابات (المحتسبة) أو نخطئها. ابتداء لا بد من القول بأن أطيافاً لا بأس بها من المجتمع السعودي مرت بتحولات ضخمة، وتعرضت للكثير من الأفكار العابرة من خارج الحدود، من الاشتراكية والعلمانية وانتهاء بالحركية الإخوانية، هذه الأفكار من الطبيعي أن تخلف الكثير من الآثار على المستوى الفردي والمجتمعي، ومن يقرأ في تاريخ الأفكار سيدرك أن تخلي الإنسان عن فكره الذي تشكل وعيه عليه أشبه بتخليه عن ابنه الذي تربى في حجره، وبالتالي حتى نقنع هؤلاء بالتخلي عن أفكارهم والإيمان بأفكارنا وقناعاتنا الصحيحة نحتاج -بعد تصحيح القصد لله تعالى- إلى مهارتين مهمتين؛ أولاهما: القدرة العلمية المتمكنة التي نستطيع معها أن نقنع الناس بالأفكار الصحيحة ونحذرهم من الأفكار الفاسدة، وهذه المهارة اختصرها القرآن الكريم بقوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وثانيهما: المهارة الحجاجية التي تمكن صاحبها من إبلاغ الحق بأحسن سبيل وأقوم طريق، وقد اختصرها القرآن الكريم بقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن) وقوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وغير هاتين الطريقتين لا تصنع إنساناً مؤمناً إيماناً صحيحاً بأفكاره وإنما تخلق في الحقيقة شخصاً مزدوجاً يمكن أن يقول لنا ما نشاء من المقولات، لكنه سيبقى مؤمناً بأفكاره السابقة أشد الإيمان مع قدر كبير من الثأر والانتقام حينما تسنح له الفرصة! فإذا فرغنا من تقرير هذه الحقيقة ننتقل إلى الحقيقة الأخرى، وهي أن التحول الصحيح لا يمكن أن يكون تحولاً راشداً ومعبراً عن انتقال صحيح من الباطل إلى الحق ومن الضلالة إلى الرشاد إلا بعد البيان الصحيح لأخطاء ذلك المنهج السابق وذكر عيوبه وفساده، وقد نص القرآن الكريم على ذلك بقوله: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا)، فهي وإن كانت نزلت في أهل الكتاب فإن حكمها عام -كما يقول ابن سعدي رحمه الله- ولهذا نص الإمام أحمد رحمه الله -كما نقله عنه ابن مفلح في الفروع- أنه لا تصح توبة المبتدع حتى يعترف ببدعته، أما من جحد فلا، وتصوير الحال فيما نحن فيه أن نقول: حينما يأتي مغرد لديه إرث حركي كبير، وله في تلك الفترة صولات وجولات للدفاع عن أفكاره وتصوراته الفاسدة، ويبدي لنا تحوله وصلاحه، وهو لم يفعل في (طوره الجديد) سوى وضع بعض المساحيق كالصور الوطنية والهتافات والأناشيد والبقاء في (المناطق الآمنة) من الدعاء للوطن والقيادة ونحو ذلك، لكن الخزان الفكري لكل الخطابات الحركية: الإخوان المسلمين الذين كان يهتف لهم قبل (الهداية) لم يتناولهم بعد (التوبة) -ولو مرة واحدة- بنقد أو بيان! فهذا في الحقيقة لا يعد تحولاً صحيحاً وإنما هو من باب ما يمكن أن نسميه ب(التحول التكتيكي) أو (المناورة والانحناء للعاصفة حتى تمر)، وعليه فإذا كان هذا الحساب من الحسابات التي تحولت تحولاً صحيحاً على النحو الذي ذكرناه، فلا يسع المسلم -والحالة هذه- أن يكشف ستر أخيه، ويذكره بماضيه، ولربما حال بينه وبين الثبات على الحق فيرتد على أعقابه، وما يفرح الشيطان بشيء أعظم من فرحه بأن يُصرف مسلم عن التوبة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المخلفون يأتون إليه ويعتذرون عن تخلفهم ونكوصهم، فيقبل منهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم في ذلك إلى الله. وأما إذا كان هذا الحساب من أصحاب التحولات (التكتيكية) فإن بيان عيوبه وإظهار فساده بالحكمة والموعظة الحسنة من العمل الصالح الذي يؤجر عليه المسلم إذا صلح في قصده وتجرد في مراده. وإذا قصر فهمنا عن معرفة صحة هذا التحول وصدقه فإننا نرده إلى الأصل المستقر في هذا المجتمع -ولله الحمد- وهو الإسلام والسنة، والقاعدة في هذا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد رضي الله: «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق عن بطونهم». هذا ما سمح به المقام، وعسى الله أن يسلك بنا سبيل المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. * كاتب سعودي [email protected]