لا أحد يريد حربا شاملة في المنطقة ولا يسعى إليها، وإن تصاعدت سخونة تصريحات وتحذيرات واشنطن، أو عنترية الوعيد من النظام الإيراني وميليشياته منذ لحظة الإعلان عن مقتل قاسم سليماني، والعراقي أبومهدي المهندس قائد الحشد الشعبي، اللذين ارتبط دورهما بإشعال المنطقة وفصولها الدامية. الإيراني سليماني قائد ما يسمى (فيلق القدس) لم يكن له ولا لدولته علاقة من قريب أو بعيد بالقدس، لا مقاومة ولا تحريرا، إنما المتاجرة بالقضية وتغذية الانقسام الفلسطيني عبر الدور الحمساوي، وارتبطت مهامه بميليشيات وأحزاب طائفية وعمليات إرهابية على امتداد الخارطة العربية من العراق وسوريا ولبنان وصولا إلى اليمن واستهداف المملكة وغيرهما. إيران وقد اشتدت عليها العزلة والحصار، وغليان داخلي يهدد مصير النظام، جاء ردها على مقتل سليماني بقصف قاعدتين أمريكيتين حصيلتهما صفرية، مما يشير إلى استنتاجات مهمة أبرزها جدية إدراك الثمن الفادح الذي سينجم عن أي تصعيد مع واشنطن، فكان محاولة حفظ ماء الوجه بصواريخ منزوعة القدرة التفجيرية، وتبدو محسوبة بخط سياسي التقط إشارة واشنطن، بأنه لا مفر من الرضوخ للحوار وتفاهمات على أسس جديدة بشأن الملف النووي والسلوك العدائي تجاه دول المنطقة. عراقيا الأزمة داخل بلاد الرافدين بلغت ذروة خطورتها، واستشعرت بغدادوالعراقيون بأن بلادهم باتت ساحة حرب وتصفية حسابات خارجية، وميدانا لميليشيات أذرعها محلية ورؤوسها وتمويلاتها إيرانية عبر الحرس الثوري وذراعه المسلح بقيادة سليماني. ما بعد سليماني قد تتغير قواعد الصراع، وقراءة الأحداث ربما تذهب إلى احتمالات تبدو مستبعدة أو مستحيلة في ظل سخونة الشعارات الإيرانية المعلنة، وهي أن مقتل سليماني على فداحته المؤلمة للنظام، قد يكون نهاية طوعية تكتيكية مبطنة منه أو إجبارية، للخروج من عنق أزماته الخانقة التي تهدد مصيره بثورة داخلية عارمة ثمنها بالغ الكلفة عليه ومن دماء وأرواح الإيرانيين. وفي العراق ارتفعت الأصوات بضرورة إخراج البلاد من غياهب المجهول، وهنا لابد أن تمتد له اليد العربية بالعون والإسناد، خاصة وقد أدرك عقلاؤه أن النفوذ الإيراني طوال مرحلة سليماني وامتدادها الطائفي المدمر، لم تجلب لبلاد الرافدين سوى التمزق والنزف والتخلف ونهب ثرواته الهائلة واستباحة سيادته من كل طامع. الحالة العربية باتت مؤلمة وبلغت ذروة الخطر إلى حد تهديد مصير العديد من الدول التي انفرطت حباتها، وتنهشها مآسي الأزمات وفتن الاحتراب والتقسيم بفعل التدخلات الإيرانية من جانب والتركية من جانب آخر، وصراعات مصالح ونفوذ دولي، ووقود كل ذلك هو شعوب تلك الدول والفاتورة الباهظة من مقدراتها ومستقبلها. التاريخ كما الحاضر يقول إن الأمة خسرت الكثير منذ قرار تقسيم فلسطين في أربعينيات القرن الماضي الذي رفضه العرب، ولا يزال الاحتلال ينشب أنيابه بالاستيطان وفرض أمر واقع، ليأتي الخريف العربي بالأسوأ وأعاد دولا عديدة عقودا، وتكالبت الأمم وتوغلت الأطماع وتغولت بمعاول هدم طائفية وتجار شعارات باعوا أوطانهم، هكذا يفعل حزب الله والحوثي وحماس وصولا إلى الحالة الليبية في طرابلس والدور التركي هناك. المملكة بذلت وتبذل جهودا كبيرة ومواقف كثيرة، وأكدت حرصها على استقرار العراق والدول العربية والعمل على محاصرة تلك الأخطار، مما يدعو إلى وقفة عربية شاملة تستلهم الدروس الأليمة الماضي منها والحاضر، وتستنهض وعي شعوبها كصمام الأمان والاستقرار وجسر العبور إلى المستقبل، ودون ذلك سيصبح المصير أقسى على أجيال هذه الأمة.