بعد التحذير الصريح الذي أطلقه رئيس هيئة مكافحة الفساد مازن الكهموس، بأن المرحلة المقبلة ستكون لاستئصال الفاسدين من الموظفين الحكوميين المتوسطين والصغار، تخيلت (نزاهة) بهيئة مفتش يرتدي معطفاً أسود ويحمل بيده (دوسيه) وعلى كتفه منجل العدالة، ويقف على الرصيف المقابل للبناية الحكومية التي تعج بالفاسدين، متأملاً بحرقة الأنوار التي تشع من نوافذها حتى ساعات الفجر الأولى وتصدح من زواياها ضحكات المتسلقين والانتهازيين الذين طالما سعوا بالأرض فساداً ولم يكن أحد يعرف عن ماضيهم الأسود شيئاً، حتى جاءهم (الكهموس) الذي سيوقظ منامهم ويقلب عيشتهم المخملية لجحيم. "لا، لا، أنا ما لي ذنب، رئيسي اللي ضغط علي وأجبرني أوقع الأوراق وأمشي المعاملة المخالفة"، هكذا ينهض من نومه مفزوعاً هذه الليالي كل موظف فاسد خان الأمانة وأرعبه صدى التحذير المنقول عن ولي العهد الأمين باجتثاث جذور الفاسدين . باعتقادي أن المادة 22 و 23 من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية تشكل (أول خيوط الجريمة)؛ لأنها تشتمل على ثغرة قانونية ساعدت في تأثير المصالح الشخصية، حيث تجيز للجنة فحص العروض لأسباب تقديرية والتوصية باستبعاد أي عرض من المنافسة حتى لو كان أقل العروض سعراً، بمعنى أن الشركة التي قدمت أقل عطاء عند فتح المظاريف وتمت ترسية المنافسة عليها بمباركة المنافسين، قد تتفاجأ وهي تستعد للتنفيذ بأن اللجنة استبعدتها من المنافسة وأعادت التفاوض مع العطاء الذي يليها، إما بداعي أن عرضها يقل عن 35% من تقدير الجهة الحكومية، أو بحجة أن لديها مشاريع أخرى ستؤثر على قدرتها المالية والفنية ومدى تنفيذ التزاماتها التعاقدية. أما (ثاني خيوط الجريمة) فهي تتبع الرحلات السياحية وصكوك الملكية للعقارات والمنقولات والإيداعات البنكية لأولئك المديرين المشبوهين والتي تزامن إجراؤها مع ترسية وتنفيذ المشاريع الحكومية، مثل هؤلاء الانتهازيين حتى يضمنوا الأمان والسرية لجرائمهم يعينون معارفهم، وهنا يأتي (ثالث خيوط الجريمة) والذي يكفي لإثباته مراجعة أسماء مسيرات موظفي بعض المرافق الحكومية لتجد أن المتغير فيها فقط الاسم الأول أو الثاني والباقي نسخ لصق من قوة القرابة، عندها ستتكشف بقية خيوط الجريمة، ويبدأ كل متهم برمي التهمة على الآخر، وسيتحول جدار البيروقراطية المنيع الذي طالما تحصن خلفه الفاسدون لخيوط شفافة أهون من بيت العنكبوت! باعتقادي أن المهمة الرئيسية لإستئصال الفاسدين ، ليست فقط محاسبة المدانين وتطهير الجهات الحكومية منهم، وإنما ترسيخ مفهوم الأمانة والشفافية لدى عموم الموظفين، حتى تنهض فيهم الرقابة الذاتية ومبادئ القيم الإسلامية، وتختفي معها عادة استغلال السلطة، والواسطة والمحسوبية، وهدايا المراجعين الودية، وفوضى استعمال سيارة العمل حتى بالمشاوير والسفريات العائلية! وإلى ذلك الحين فقد وردنا قبل قليل أن أحد الفاسدين استيقظ من نومه فزعاً وقد بلل نفسه لا إرادياً، بعد أن قرأ قبل أن يخلد لفراشه خبر زيارة (الكهموس) لرئيس الديوان العام للمحاسبة، وما زاد من رهبته أن زوجته وأبناءه لاحظوا ارتباكه وهلعه.