لا أظن أن هناك اتفاقا يصل حد الإجماع بين المسؤولين والنخب الثقافية حول موضوع مثل اتفاقهم على إشكالية الصورة الذهنية التي يحملها الآخرون عن المملكة خاصة في المجتمعات الغربية. فهم متفقون حول وجود صورة مغلوطة عن المملكة أسباب تشكل هذه الصورة وكذلك كيفية التصدي لها. بل إن الأمر تجاوز مجرد الحديث عن هذه القضية إلى اتخاذ إجراءات وبناء أجهزة للتعاطي معها؛ فهناك برنامج ضمن رؤية 2030 لتصحيح الصورة، كما أنشأت وزارة الخارجية وكالة للدبلوماسية العامة لتعمل على تعزيز الصورة الإيجابية عن المملكة. ومن بين أبرز المقترحات التي يتكرر طرحها في هذا الصدد تنظيم زيارات للعواصم التي تشيع فيها صور مغلوطة عن المملكة، وكذلك استضافة الوفود الأجنبية وتسهيل دخول الإعلاميين من أجل تمكينهم من التعرف على المملكة والمجتمع السعودي عن كثب، وتنظيم برامج لقاءات لهم بالمسؤولين والسماع منهم مباشرة بدلاً من الاعتماد على مصادر بعضها لا يخفي مقاصده لتشويه صورة المملكة وسياساتها. ولا شك أن هذه الخطوات إضافة إلى غيرها -في حال أحسن إدارتها- جديرة بتصحيح الكثير من الصورة المغلوطة. إلا أن الواقع للأسف يكشف عن لامبالاة عند المباشرين التنفيذيين لهذا الملف في الالتزام بما يروجون له من أطروحات حول بذل الجهود لبناء صورة إيجابية عن المملكة، ويشير إلى أن ما يظهر أنه هم وطني لا يتجاوز مجرد حديث عابر يردد في مناسبات وسريعاً ما يتلاشى حال انتهاء المناسبة. وقد لا نجد في هذا إشكالاً فقد أصبح أمراً مألوفاً في كثير من المجالات وتجاه كثير من القضايا، إلا أن ما يجعل حالة اللامبالاة هذه مشكلة تستحق التوقف عندها والبحث فيها هو حين يترتب عليها تبديد موارد مالية وبشرية استثمرت من أجل تصحيح الصورة سواء من خلال إنشاء أجهزة أو وضع برامج فهنا يستحق الموضوع البحث وحتى المساءلة. ولتوضيح هذه المسألة وتقريبها أشير إلى الغياب الكبير للمعنيين مباشرة بقضايا الشأن الخارجي -وهم موجودون في كثير من الجهات الحكومية- عن الملتقيات التي تستضيف وفوداً أجنبية رسمية وفكرية جاءت للمملكة وهي تحمل أسئلة كثيرة عنها وعن مواقفها تجاه الكثير من القضايا الإقليمية والدولية ومتعطشة للتعرف على ما تعيشه من تحولات كبيرة تحت رؤية 2030. وقد قدر لي حضور الكثير من هذه الملتقيات التي تنظمها مؤسسات ومراكز يجتهد القائمون عليها في دعوة العاملين في الجهات الحكومية ذات الصلة بالشأن الخارجي وشد انتباهي الغياب شبه التام لهم. هذا الغياب يفوت فرصاً مهمة كان بالإمكان استثمارها لتصحيح معلومة وبيان موقف والرد على استفسار دون حاجة لتحمل مصاريف سفر وترتيب زيارات خارجية لا تضمن ذات الحضور الذي توفره هذه الملتقيات التي تعقد داخل المملكة ويدعى لها وفود تمثل نخباً سياسية وفكرية مؤثرة في مجتمعاتها. ولعلي هنا أذكر مثالاً واحداً يدل بشكل واضح كيف تتسبب لامبالاة هؤلاء في تفويت فرص مهمة. فقبل أيام نظمت إحدى المؤسسات الأكاديمية في الرياض ورشة عمل استضافت فيها وفدا غربيا كبيرا ضم وزراء سابقين ومستشاري دولة ورؤساء مراكز بحثية ومسؤولين تنفيذيين وتناول في ثلاث جلسات قضايا العلاقات الثنائية والمواقف المشتركة من القضايا الإقليمية والدولية، وتميز بشفافية عالية في الطرح وظهر خلاله شغف من أعضاء الوفد للتعرف على ما تعيشه المملكة في ظل رؤية 2030، وكذلك موقفها من التحولات الكبيرة في البيئتين السياسية والأمنية في المنطقة، وأعرب بعضهم عن وجود فجوة معرفية تصل أحياناً إلى درجة الجهل بما يجري من تغيرات مهمة في المجتمع السعودي، كما حمل بعضهم صوراً غير دقيقة عن هذه التغيرات. وبقدر ما سرني الحوار الشائق بين الوفود والمشاركين السعوديين وجلّهم أكاديميون وأعضاء مجلس الشورى وبعض رجال الأعمال بقدر ما شعرت بالاستياء من الغياب التام للموظفين المتعاملين مباشرة مع هذه الملفات وكذلك الباحثين في هذه القضايا من منسوبي جهات استشارية مكلفة بإعداد وتقديم تصورات وتوصيات عنها، إضافة إلى غياب منسوبي الجهات الحكومية التي جعلت من تصحيح الصورة في مقدمة أولوياتها رغم توجيه الدعوات لهذه الجهات. ولا يمكن أن يكون هناك سبب مقبول لهذا الغياب عن الورشة؛ خاصة إذا علمنا أن الوفد يمثل أكبر وفد غربي يزور المملكة خلال عام تقريباً. وبعد أحداث زادت الصورة الذهنية تعقيداً وزادت معها الحاجة لمضاعفة الجهد في التصحيح الذي لن يجد طريقة أفضل سوى من خلال الحوار المعمق حول القضايا التي تمثل حواجز تحول دون فهم وتقدير مواقف المملكة ومنطلقاتها. قد يبرر البعض غيابه عن هذه الملتقيات بأنهم عادة ما يلتقون بهذه الوفود حيث ترتب لهم زيارات للأجهزة الحكومية ضمن برنامج الزيارة، إلا أن هذا تبرير غير مقبول، فهذه الزيارات لا تتعدى أن تكون زيارات مجاملة صرفة يطغى عليها حديث باتجاه واحد وتفتقد للحوار المتبادل الذي توفره الملتقيات وتمثل منتدى حقيقيا للنقاش الحي والمثمر. وقد لا يتعدى المطلوب من هؤلاء المتعاملين مباشرة مع القضايا الخارجية مجرد الحضور والاستماع لما يحمله الآخرون عن المملكة والاستفادة من ذلك في تقديم المرئيات للتعامل الناجع مع هذه القضايا والملفات، إلا أنهم معرضون عنها. قد يقول قائل إن الدبلوماسية التقليدية خلف الأبواب المغلقة جديرة بالتعاطي مع هذه القضايا ومن ثم لا حاجة لبذل الجهد لحضور ملتقى والاستماع للآخر، ويمكن أن نقبل مثل هذا التبرير لكن بشرط واحد وهو أن يتوقف المسؤول عن الترويج المُمِل عن أهمية الدبلوماسية العامة وتصحيح الصور المغلوطة ليكون هناك اتساقاً بين القول والفعل، أما أن نستمر في الحديث عن أهمية الدبلوماسية العامة دون القيام بأبسط واجباتها فهذا أمر لا يستقيم. باختصار هذه الملتقيات تمثل اختبارا حقيقيا لجدية الحديث الذي لا ينقطع عن الحاجة الماسة لبذل الجهد والمال لتصحيح الصور المغلوطة وبناء صور إيجابية عن المملكة. * كاتب وأكاديمي سعودي