قبل أيام أعلن الرئيس الكازاخي نور سلطان نزاربايف تخليه عن منصبه رئيساً للبلاد بعد 3 عقود من الحكم، وتكليف رئيس مجلس الشيوخ قاسم توقايف رئيساً بالنيابة لإكمال المدة حتى موعد الانتخابات الرئاسية في شهر أبريل 2020. وفي خطابه أعلن الرئيس السابق أن مهمته المتبقية هي الإشراف على وصول جيل جديد للحكم لاستكمال برنامج الإصلاح؛ فما يشهده العالم اليوم من تحولات -حسب رؤيته- لا يقتصر على فرص جاهزة للاقتناص بل يأتي بتحديات تتطلب حلولاً تقتضي مشاركة الأجيال الجديدة. مهمة استمرار الرئيس السابق في الإشراف على هذه التحولات مضمونة من خلال صفته ك«زعيم للشعب الكازاخي» وكرئيس دائم لمجلس الأمن القومي، والذي يتمتع بصلاحيات واسعة في الداخل والخارج. وقد تم مأسسة هذه الأدوار من خلال تعديلات دستورية تحول دون منازعة استمرار دوره مستقبلاً حتى بعد تخليه عن الرئاسة. التخلي عن الرئاسة المباشرة للبلاد والاكتفاء بالإشراف على عملية انتقالها السلس جاء نتيجة إدراك نزاربايف لمخاطر الاختفاء المفاجئ من المشهد بالنظر إلى تقدمه في العمر وحالته الصحية، وما قد يحدثه ذلك من ارتباك يهدد استقرار الدولة بعد 30 عاما من الحكم المنفرد. فكون نزاربايف المؤسس لدولة كازاخستان الحديثة حيث تولى الحكم بعد الاستقلال المفاجئ الناتج عن تفكك الاتحاد السوفيتي وأدار مشروع تأسيس الدولة في ظروف صعبة جداً يجعل ملء مكانه شبه مستحيل، ما يعني أن مستقبل الحكم في كازاخستان سيكون أكثر مشاركة وهو ما حرص عليه من خلال إجراءات اتخذها مؤخراً منحت البرلمان صلاحيات أكبر. المنهج الذي اختطه الزعيم الكازاخي جدير بالاهتمام، فقد يكون مخرجاً لمعضلة الحكم في عدد من الدول التي لا يرى زعماؤها بديلاً لهم ويربطون بين استمرار زعامتهم وبقاء الدولة. رأينا هذه المعضلة في العراق تحت حكم صدام وفي ليبيا القذافي وفي اليمن تحت حكم علي عبدالله صالح. هؤلاء وبعد تفرد بالحكم وصلوا إلى قناعة بأن بقاء دولهم غير ممكن دون استمرارهم في الحكم لذلك تشبثوا به ما انتهى بهم ودولهم إلى نهايات مأساوية لا تزال شعوبهم تدفع ثمن تلك القناعات المتطرفة لحكامها. اليوم يتكرر المشهد في دول مثل روسيا وروسيا البيضاء وتركيا. فرؤساء هذه الدول لا يتصورون استمرار دولهم واستقرارها دون استمرارهم في السلطة إيماناً بمقولة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر «أنا الدولة والدولة أنا»، وهذا ما يفسر تشبثهم بالسلطة وبحثهم الدائم عن تعديلات دستورية تمنح بقاءهم الغطاء الشرعي، ويبرز هنا تحديداً ما فعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان. فبوتين الذي يستمر حكمه حتى 2024 تولى الرئاسة أولاً لفترتين رئاسيتين امتدتا من 2000 إلى 2008، ولأن الدستور لم يسمح له بفترة ثالثة فتحول إلى رئاسة الوزراء وجاء برفيقه ديميتري ميدفيدف ليلعب دور «المحلل» ويتولى الرئاسة لفترة واحدة استمرت حتى 2012 ليعود بوتين لمنصب الرئاسة من جديد ويعاد انتخابه لمدة 6 سنوات بدلاً من 4 بعد تعديل الدستور ويعاد انتخابه في 2018 ليستمر في الحكم حتى 2024. وحينئذ يمكن لبوتين أن يكرر نفس السيناريو الذي لعبه في 2008 ويتولى رئاسة الوزراء ويرشح أحد أتباعه ليتولى الرئاسة لفترة واحدة ليعود للمنصب من جديد في 2032، حيث لا يوجد مانع دستوري. هاجس استمرار بوتين في رئاسة روسيا هو ما يفسر الحديث عن إمكانية تعديل الدستور للتمديد للرئيس دون المرور بفترة «المحلل». ومن الخيارات الأخرى المطروحة لضمان استمرار بوتين في الرئاسة إعلان اتحاد مع روسيا البيضاء وتولي بوتين رئاسة المجلس الأعلى للاتحاد. أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فبعد أن تولى رئاسة الوزراء خلال الفترة 2003-2014 تولى رئاسة الجمهورية وحرص على تعزيز هذا المنصب من خلال تعديل نظام الحكم من نظام برلماني إلى نظام رئاسي بسلطات واسعة جداً، وأعيد انتخابه في 2018 لمدة 5 سنوات تستمر حتى 2023، ولا يوجد ما يمنع من إعادة انتخابه للرئاسة حينئذ ليستمر في المنصب حتى 2028. الرئيس الكازاخي أعطى نموذجاً جديداً لهؤلاء الزعماء يمنح لهم الاطمئنان النفسي أن دولهم يمكن أن تستمر في البقاء دون إمساكهم المباشر بزمام السلطة؛ فهم خارجها ولكنهم ليسوا بعيدين عنها يراقبون من يتولاها ويشرفون عليها ويحولون دون صراعات قد تنشأ داخل النخب الحاكمة بعد رحيلهم. لذلك هناك احتمال أن يلجأ بوتين إلى استنساخ هذا النموذج من خلال تعزيز مجلس الأمن القومي الروسي وإجراء تعديل دستوري يضمن له رئاسته الدائمة ومن خلاله يدير المشهد السياسي. أما الرئيس أردوغان فغير مستبعد أن يوظف فكرة الزعيم الروحي في الثقافة التركية ويعلن نفسه «أباً للأمة التركية»، ما يسمح له بالاطمئنان على بقاء تركيا دولة قوية تحت مظلته محصنة ومحاطة بعناية السلطان. * كاتب وأكاديمي سعودي