كل نشاط أو حركة أو سلوك نقوم به في أي لحظة بهواتفنا الذكية (اتصال، رسالة نصية أو إلكترونية، فيديو، شراء، تغريد،... إلخ) أو من خلال محركات البحث ومتصفحات الإنترنت يترك أثراً رقمياً. هذه الآثار أو «البصمات الرقمية» التي يخلّفها هذا السلوك أو النشاط يُشار إليه بعادم البيانات. وإذا علمنا أن هناك حوالى 9 مليارات هاتف جوال في العالم، فيمكننا أن نتخيّل- إلى حد ما- التدفق الضخم من عوادم البيانات أو بالأحرى الانفجار الرقمي الهائل، الذي يحدث في الثانية الواحدة. باختصار، لقد أصبح الكائن الحي، «كائن بيانات». هذا إلى جانب مصادر عديدة أخرى، مثل أجهزة الاستشعار الرقمية وصور الأقمار الصناعية وغيرها. منذ سنوات قليلة، أعدّت المفوضية الأوروبية البيانات الضخمة رصيداً أساسياً للاقتصاد، وللمجتمع الأوروبي على غرار الموارد البشرية والمالية والطبيعية التقليدية. في الوقت نفسه استوعبت الشركات العالمية والدول المتقدمة أهمية الاستفادة من تلك البيانات، حيث قامت بوضع خطط مستقبلية وبناء مراكز بيانات متخصصة للاستفادة من تلك البيانات، مثل مشروع وكالة الأمن القومي لتطوير قاعدة بيانات وطنية أطلق عليه مشروع مركز بيانات يوتاه. لماذا الكل -تقريباً- فعل ويفعل ذلك؟ ببساطة لأن البيانات الضخمة ستكون الوقود الذي يدفع الثورة الصناعية القادمة (عصر البيانات)، وهي من تقوم بإعادة تشكيل الهياكل الاقتصادية بشكل جذري، وتغيير أنماط التوظيف وصولاً إلى كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبالتالي يجب أن لا يثير استغرابنا وصف البيانات الضخمة بأنها «سلعة جديدة» لاقتصاد القرن الواحد والعشرين، أو كما يقول أحدهم أنها «نفط جديد» ينبغي تكريره. لكن ما البيانات الضخمة Big Data؟ يُستخدم مصطلح البيانات الضخمة لوصف مجموعة بيانات كبيرة للغاية أو على درجة من التعقيد أو تتطلب قدرا كبيرا من المعالجة السريعة، وتحتوي على كثير من الضوضاء/المصداقية ويُضاف لها مفهوم القيمة (تسمى أحيانا مشاكل الحجم/ التنوع/ السرعة/ المصداقية/ القيمة أو 5V's)، وهذه البيانات يصعب بشكل كبير-إن لم يكن من المستحيل- التعامل معها باستخدام قواعد بيانات تقليدية أو أدوات تحليلية سائدة. لم يعد الحديث عن أرقام، مثل جيجابايت أو حتى تيرابايت، بل عن إكسابايت وزيتابايت (واحد وعلى يمينه واحد وعشرين صفر) وما وراءها. ومع إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية لم يعد الاستثمار في البيانات الضخمة مجرد خيار للمنظمات، ففي عام 2015 كان حوالى 75٪ من الشركات تستثمر (أو خططت للاستثمار) في بيانات ضخمة إلى مدى عامنا هذا 2018 مع العلم أن هذه النسبة لا تشمل الشركات العملاقة مثل أمازون وغوغل وميكروسوفت التي استثمرت بشكل تام في مستقبل البيانات الضخمة. ووصلت إيرادات قطاع البيانات الضخمة وتحليلات الأعمال في عام 2016 إلى 130 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتجاوز إيراد هذا القطاع 200 مليار دولار بعد عامين من الآن. هذا الزخم الهائل يرجع لأسباب عدة، لعل من أهمها أن تحليلات البيانات الضخمة توفر حلولاً فاعلة وقابلة للتعامل مع حجم البيانات المتزايدة لأجل اكتشاف أنماط ومؤشرات ودلائل وعلائقيات أو تقاطعات من المعلومات والمعرفة. هذه التحليلات قادرة على جعل البيانات الضخمة قابلة للإدارة، ومُربحة، وأداة فاعلة في تحقيق ميزة نسبية للمنظمة نتيجة تنميط وقولبة الخدمات بشكل آني وفوري لتتناسب مع التفضيلات الشخصية والحاجات المتغيرة للأفراد والسلوكيات الشرائية للزبائن، وهذا ما يفعله أمازون: المتجر الإلكتروني الأشهر في العالم تحديداً لمتصفحي موقعه. لكن القاعدة الذهبية هنا أنه لا يمكن ضمان النجاح في تحسين أداء الأعمال من خلال إدخال البرمجيات الحديثة والأدوات التحليلية المتقدمة فحسب، ولكن النجاح يتم من خلال تغيير الثقافة التنظيمية للمؤسسة. يصف الخبراء البيانات الضخمة بأنها ثورة من شأنها أن تُغيّر أنماط وكيفية حياتنا، وتفكيرنا، وطريقة عملنا. وبالتالي فإن الحديث ليس فقط عن الأثر التنظيمي والاقتصادي للبيانات الضخمة، ولكن في التغيير الثقافي والاجتماعي المصاحب لها. فعندما نسمع عن المدن الذكية، فإن البيانات الضخمة -مع إنترنت الأشياء- هي القلب النابض لها. في هذه المدن يتم التخطيط والتنظيم لكل شيء ويشمل هذا مثلاً نمذجة أرصفة المشي، ومسارات النقل، وتوقيت الإشارات الضوئية والازدحام وتدفق الحركة، وإدارة البيئة ودعم خدمات الطوارئ والاستهلاك الكفء للطاقة وتعظيم الاستفادة من البنية التحتية، كل هذا استنادا إلى البيانات التي توفرها كل من أجهزة الاستشعار الذكية الثابتة والمتحركة ووسائل التواصل الاجتماعي وقاطني المدينة وزوارها. أما عندما تقرأ عن الاحتيال الإلكتروني والأمن السيبراني، فإن البيانات الضخمة سوف تساعد بشكل كبير على حل كثير من هذه المشاكل والتعقيدات، حيث تسمح تحليلاتها بتحديد الحالات الشاذة وغير المعتادة والنواقل الهجومية المتقدمة ومن ثم تصنيف التهديدات السيبرانية وترتيبها دون تأخير. وهذا يتم من خلال أساليب تعلّم الآلة المقترن بالذكاء السحابي والاستجابات التلقائية. باختصار، تمر الهيئات العامة والحكومية بنقطة تحول، وعليها أن تدرك أن البيانات (الضخمة تحديداً) هي أصول إستراتيجية. وبعيداً عن القضايا التي أصبحت ملازمة للتقنية عموماً والتي تتكرر بشكل أكثر مع البيانات الضخمة، مثل الخصوصية والشفافية والفجوة الرقمية، فإن الأخيرة تمثل هاجساً كبيرا والسبب يرجع إلى أن هناك نسبة ضئيلة من الأفراد والشركات لديهم قدرات تحليلية مناسبة. هذا النقص في القدرات البشرية والمهارات الفنية تُمثل التحدي الأكبر الذي تواجهه الشركات والمؤسسات الحكومية في العالم ولدينا في المملكة بشكل واضح. ولأن الإحصائيين التقليديين لا يتركون الفرصة تمر دون ضجة فإنهم يحذرون مما يُطلق عليه «غطرسة استخدام البيانات الضخمة» الناجم عن افتراض أن البيانات الضخمة هي بديل لجمع البيانات وتحليلها بالطرق التقليدية بدلا من أن تكون مكملة لها. ومهما كانت نظرتنا إلى البيانات الضخمة وأثرها، فيجب أن نفهم أن توفر هذا الكم الضخم من البيانات لا يعني تحولها تلقائياً إلى «معرفة صحيحة»، بل قد تؤدي تلك البيانات إلى استنتاجات مغلوطة واكتشافات خاطئة، أو ما يسميه الخبراء «موجبات كاذبة». لهذا قبل استخدام البيانات الضخمة، يجب إدارتها وتصفيتها من خلال تحليلات البياناتData analytics؛ وهي تلك الأدوات والمنهجيات التي يمكنها تحويل كميات هائلة من البيانات الخام إلى «بيانات حول البيانات» لأغراض تحليلية. أو كما يُقال أنه في حين أن البيانات وفيرة وسهلة وفي متناول يد الجميع، فإن قيمتها الحقيقية هي في التحليلات. أي القدرة على تحويل الأثر إلى قيمة. في النهاية علينا أن لا ننسى مقولة المستشار والمُنظّر الإداري وجيفري مور: «بدون بيانات ضخمة، أنت أعمى وأصم في منتصف طريق سريع». * كاتب سعودي