جولة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على ولايات أمريكية عدة يمكن أن يكتب ويقال عنها الكثير، نظراً لضخامة الاتفاقات وحجم الاستثمارات والمنافع المتبادلة وطبيعة اللقاءات والنقاشات وسخونة الملفات، والأثر القوي الذي تتركه في كل ولاية أمريكية. الأمير محمد ذو شخصية قيادية موثوقة وكاريزما واثقة يتحدث بلغة صريحة ويتمتع بذاكرة حديدية، لا يحبذ المديح ويهتم بتفاصيل التفاصيل ويصغي للملاحظات والانتقادات بشكل دقيق، ولا يكترث بمن يسوق المدائح على حساب الحقائق. غير أن تناول نجاح زيارة ولي العهد في المحطات التي مرت بها، يوجب الإشارة إلى أن ما يمكن أن يقال ليس من باب الإطراء، لكونها إنجازات ملموسة تستحق التدوين للأجيال؛ فهو يكرس ساعات ليله ونهاره لعمل لا ينقطع، لتخرج «السعودية الجديدة» كما يتمناها أهلها ومحبوها، وكما يتوقعها العالم، وفق «رؤية المملكة 2030»، ولذلك لا يحتاج إلى حَمَلة مباخر يحجبون الحقيقة عما يريد أن يحققه لبلاده. لقد تمكن ولي العهد من إنشاء شراكات إستراتيجية مهمة مع الفاعلين الدوليين وإقناع الداخل السعودي بضرورة التغيير الذي تتطلبه المرحلتان الراهنة والمستقبلية ضمن التطورات والمستجدات على الساحة الدولية، التي أصبحت فيها الموازين تتجه للدول التي تشكل الفارق فقط، ولا مكان فيها للمتقاعسين!. صناعة تحديث الأمم ليست نزهة ميسورة في شعاب التاريخ. وأول وأهم أسس ذلك أن تبدأ الأمة الباحثة عن أقصر الطرق للحاق بالأمم التي تقدمت من حيث انتهى إليه الآخرون، وليس من حيث بدأوا. وذلك هو الإطار العريض الذي يحكم مسيرة المملكة إلى «السعودية الجديدة». وهذا- في مغزاه الكبير ومعناه الأدق- هو مضمون النجاح الذي يتوالى في محطات الزيارة التي يقوم بها الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة، وما سبقها إلى بريطانيا وما سيعقبها من زيارات خارجية، ستشمل فرنسا وإسبانيا. ولعل زيارة ولي العهد للولايات المتحدة اكتسبت عمقاً ومغزى أكبر بلقاءاتها المتلاحقة مع كبار قادة الصناعات الرقمية الأمريكية، التي أضحت تشكل أساساً لتوسع الاقتصاد العالمي. وبالطبع فإن السعودية، شأن أي دولة، لها همومها الأخرى التي تشغلها، وتراها شرطاً لازماً لانطلاق مسيرتها في القرن ال 21، وفي مقدمتها هم توطين الصناعات العسكرية، خصوصاً أنها الدولة الرابعة في العالم لجهة الإنفاق العسكري. ولذلك كان يوماً مشهوداً في تاريخ البلدين، حين رعى ولي العهد في سياتل توقيع اتفاق بين شركة «بوينغ» وهيئة التصنيع العسكري السعودية، ينص على توطين 50% من عمليات التصنيع التي اتفق عليها الجانبان. وهو فضلاً عن التمكين، سيتيح عدداً كبيراً من الوظائف، وفرصاً هائلة لتطوير الكفاءات البشرية السعودية في مثل هذه المجالات العلمية والتصنيعية الدقيقة. وعلى الجانب الآخر، كانت زيارة ولي العهد في عدد كبير من محطاتها متابعة للتوجه السعودي الجاد إلى التقنية الرقمية، وهو الأساس الذي يقوم عليه مشروع مدينة «نيوم» غير المسبوقة في العالم. ولذلك توالت لقاءات الأمير محمد بن سلمان مع قادة شركات التكنولوجيا الرقمية التي غيرت وجه العالم واقتصاده، وتحكم حياة مئات الملايين من الأجيال الشابة في مختلف أرجاء المعمورة. ولئن كنا رأينا ذلك في نيويورك وبوسطن وسياتل، فإن الزيارة في محطاتها بولاية كاليفورنيا (لوس أنجليس وسان فرانسيسكو) تؤكد أن السعودية الجديدة متمسكة بخطواتها الواثقة التي ستقودها إلى تحقيق الغايات الكبرى لرؤية السعودية 2030، التي يتمثل عنوانها العريض في إعادة هيكلة جذرية لمجالات عدة بينها الاقتصاد والاستثمار وصناعة الترفيه، وضمان عدم اعتماده على مداخيل النفط وحدها. وهي توجهات أثارت اهتمام الأمريكيين في قطاعاتهم السياسية والاقتصادية والتكنولوجية. الأكيد أن المسيرة بدأت نحو «السعودية الجديدة» بخطى واثقة. وقد بدأت من حيث انتهى إليه الآخرون؛ ما يتطلب من الشعب السعودي أن يكون بحجم الرهانات، ومستعداً للتضحيات لبلوغ الغايات المنشودة، بما يكتب «روشتة» مضمونة للنجاح ووصفة تضمن للملايين من شباب المملكة غداً مشرقاً ومستقبلاً زاهراً.