نعم «البرندة» ما غيرها دون فلسفة أو تكلف أو مقدمات شاعرية أو شعرية، تعددت المسميات (برندة، فرندة، بلكونة، شرفة، مشربية...) والمعنى واحد، والإجابات متعددة لسؤال طرحته في تويتر قبل عدة أيام قد يراه البعض سؤالا تافها، ولكن بالتأكيد سيراه آخرون غاية في الأهمية، وأكرر طرحه هنا مرة أخرى: أين البلكونة في ثقافتنا العمرانية؟ ولماذا اختفت بعد أن كانت من أهم سمات البناء في حقبة ما قبل؟ عندما طرحت السؤال وجدت تفاعلاً كبيراً وإجابات متباينة، مما يعني أن البلكونة تحمل أهمية كبيرة لشريحة ليست بالقليلة، فهنالك من عزا اختفاء الشرفة من النمط العمراني في المملكة منذ الثمانينات وحتى الآن لأسباب مناخية تتعلق بحرارة الجو والغبار، والبعض برر ذلك بأنها تلاشت مع انتقال التخطيط الهندسي العمراني من المقاول المصري إلى جنسيات أخرى، وقد كانت أثناء ذلك وخلال السبعينات وبداية الثمانينات الميلادية حاضرة في كل بناء جديد حين نقلها المقاول المصري من بيئته؛ ولأنها كانت ثقافة طارئة فقد تلاشت وهذا أحد الأسباب المطروحة، أما بعض الردود فكانت تفيد أن نظام البلدية يمنع ذلك حالياً مما لا يبدو منطقياً في نظري. البلكونة تختزل أشياء جميلة في كل ثقافة سواء قديماً أو حديثاً فهي متنفس المنزل ورئته المطلة على الحياة، فهي مصدر للإبداع والفن والجمال والرسم والقراءة والكتابة وكل أشكال الحياة، فكم فنان ورسام ألهمته شرفته، وكم روائي ألف روايته فيها أو مزجها بين أحداث روايته، وكم مبدع استوحى إبداعه في لحظات هدوء وتجلٍ في شرفته، والحال نفسه يندرج على المشربيات التي استخدمت للغرض ذاته وقد بدأ ظهورها في العصر العباسي وتدرجت حتى العصر العثماني، فانتشرت في مصر والشام والعراق واليمن حتى وصلت الحجاز، والطراز العمراني في مباني منطقة الحجاز القديمة لا يخلو من المشربيات المزينة بالخشب المعشق الجميل حتى يومنا هذا. أشاهد هذه الأيام بعض المباني الجديدة وقد زينت نوافذها بسياجات صغيرة توحي بأنها بلكونات صغيرة (في طور النمو)، وهذا مؤشر جيد لعودة البلكونة التي وإن غابت عن مشهدنا الحالي فهي حاضرة في تراثنا ورومانسياتنا ورواياتنا وأغانينا وبالطبع لم تغب في الروايات العالمية الخالدة التي ارتبطت حبكاتها بشرفات المحبين، فكم متيم كانت شرفة معشوقته شرارة قصة عظيمة، وكم لوعت هذه الشرفة قلب روميو الذي لم تنفك صورته في مخيلاتنا بشرفة جولييت أكثر من مضمون الرواية ذاتها وصراع النبلاء في مدينة فيرونا والنهاية الدرامية التي أسدل بها شكسبير ستار روايته الباذخة والعظيمة. برأيي أن «الصحوة» هي من طمس جماليتنا وانتزع «بلكوناتنا» تدريجياً بتحويلها إلى صناديق مغلقة عندما أصبح الجار محل توجس من جاره، وحين تدرجنا حتى أصبحت بيوتنا «بأكملها» أشبه بالأقفاص، نعم اختفت البلكونة كما اختفت لمسات جمالية كثيرة في حياتنا بعد أن عصفت بنا الصحوة فاقتلعت هذه الجماليات، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو صغير لم يعش تلك الفترة أو «صحوي»، فالصحوة - غيرالمباركة - لم تطمس بلكوناتنا فقط، بل طمست علاقتنا بجيراننا وبيئتنا ونزعت الثقة فيما بيننا، وتمادت بطمس العلاقة في البيت الواحد.. إنها ابتلاء ديني اجتماعي مازلنا نتعافى منه وسنتعافى بمشيئة الله ثم بهمة وعزم مليكنا وشبله صاحب مقولة: (نحن لم نكن هكذا في السابق، وسوف نعود إلى ما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم، وسوف نقضي على بقايا التطرف).