الصديق العزيز جداً على قلبي، القاص حسن دعبل، لديه اهتمامات واشتغالات معرفية لا تقل أهمية عن إجادته فن القصة والسرد، واهتماماته واشتغالاته تلك، تقوم بيننا مقام القاسم المشترك؛ فتلك الاهتمامات والاشتغالات لدى حسن دعبل، ليست مدفوعة بالشغف المعرفي فحسب، وإنما هي تجسيد حي للمفهوم الغرامشي حول «المثقف العضوي» أو كما تُرْجِم المصطلح إلى اللغة الانجليزية «intellectual organic» نقلاً عن كتاب «مختارات من دفاتر السجن» الذي حرره وترجمه إلى الانجليزية كوينتين هوير وجيفري نويل سميث، وصدرت طبعته الأولى عام 1971 عن دار انترناشيونال بوبليشرز، نيويورك. سَكّ أنطونيو غرامشي مصطلح المثقف العضوي، وعَرّفَه بأنه ذلك الذي يُشّكِل عنصر التفكير والتنظيم لطبقة اجتماعية أساسية معينة. ولا يُعّرَف هذا المثقف العضوي بمهنته، التي قد تكون أي وظيفة مُمَيِّزَة لفئته، بل يُعَّرَف أكثر من خلال وظيفته في توجيه أفكار وطموح الطبقة التي ينتمي إليها في الأصل. حسن دعبل غير معني بمؤدى هذا المصطلح، ولا بمؤدى غيره من المصطلحات؛ كما أن حسن دعبل لا يميل للجدل النظري المجرد؛ فهو منحاز، بفطرته، إلى الكائن البشري البحري، أو كما كان يُعْرَف على لسان أهل السواحل ب«أهل السِّيف». حسن دعبل مولود على السِّيف، ومتشرب لثقافة السِّيف حتى النخاع، وذائب في حب حياة البحر وأسياف البحر رغم أهوالها، وافتقارها، لنعومة ورغد العيش. حب البحر، وأسياف البحر، وحب أهل الأسياف في طريقة عيشهم، وفنونهم، وطعومهم، وملبسهم، ولسانهم، وسلومهم، وعلومهم؛ ليست مجرد حنين نوستالجي يصور كل ما فات ومضى على أنه جميل ونقي، ولكن للبحر، وأسيافه، وأهل أسيافه حياة حريٌ بها الدراسة، وبأن يُتَّخذ منها نموذج للتعايش الذي لم يحتج إلى تنظير، أو تفيقه ثقافي؛ فقرية سنابس التي ولد وترعرع فيها حسن، قرية ساحلية من قرى جزيرة تاروت، وتحتل الجزء الأوسط من الساحل الشرقي لجزيرة تاروت. سكان سنابس من الشيعة العرب، وروابط الدم تمتد بينهم، وبين الكويت، والبحرين من أزمنة سحيقة في القدم. تشارك قريتان أهلهما من السنة، سنابس في تقاسم الساحل الشرقي لجزيرة تاروت؛ فإلى الجنوب من سنابس هناك دارين، وإلى شمال سنابس هناك الزُّور، وهما قريتان سنيتان من قرى جزيرة تاروت في منطقة القطيف. الجوار الجغرافي، والاشتراك في النظام الاقتصادي البحري، أوجد بين سنابس الشيعية، ودارين والزُّور السنيتين، قواسم مشتركة أكثر من أن يحصيها الحصر، وقد فاقت المشتركات التي جمعت بين سنابس، وجارتيها السنيتين، تلك المشتركات التي جمعت بين سنابس، وبين جوارها الشيعي. ذات يوم من أيام الشهر الأول من العام الميلادي الفائت، وأثناء زيارة اعتيادية كنت أقوم بها لمنطقة القطيف، اتصلت، كعادتي، بحسن دعبل أعلمه بوجودي في الجوار؛ فاقترح حسن أن نترافق لزيارة شخص من القلة الباقية من أهالي الزُّور؛ فوافقت على ما اقترحه حسن، وقمنا بزيارة علي بن مسعود البوفلاسة صبيحة يوم 31 يناير 2017، وكانت هجرة فرع من البوفلاسة وظعنهم بعيداً عن قبيلتهم الأم «بني ياس» في أبوظبي إلى الساحل الشرقي لجزيرة تاروت، محور الحديث في ذلك الصباح. في إجابته على سؤالنا عن هجرة البوفلاسة، بدأ مضيفنا ببيت شعر شعبي يقول: «حوفروهم يوم نوّوْ بِلْمْسّير/ وأصبحوا غرب لِيْبيل مدرهمات». وحسب رواية علي البوفلاسة؛ فالظعن قد حدث عام 1244ه. كما روى لنا علي البوفلاسة، قصة تسمية «حالة زعل»، وهي جزيرة صغيرة تقع شمال شرق سنابس والزُّور، وقد شَدّ الرحال إليها أحد رؤساء البوفلاسة الذين جاؤوا من أبوظبي إلى ساحل جزيرة تاروت، وهو زعل بن طارش بن محمد بن فيصل البوفلاسة، وأسميت الجزيرة على اسمه، وتلاشى اسمها القديم؛ حيث كان اسمها «الفاتح». تشعب حديثنا عن الزُّور إلى اتجاهات عدة، ومن هذا التشعب، عرفت أن سكان الزُّور بلغ عددهم 1200 نسمة في ذروته، والآن لا يتجاوز عدد من بقي فيها من أهلها، 10 بيوت أو 10% من عدد سكانها حين بلغ العدد ذروته! استنتجت من هذا الواقع أن الزُّور قد طالها تجريف بشري عميق، وهذا الاستنتاج فرض أسئلته، التي منها: - لماذا تحول هذا السِّيف الجاذب إلى سيف طارد؟ - أين ذهب الذين نزحوا عن سيف الزُّور، وما شكل علاقتهم الحالية بسيفهم، وبمن جاوروه في الزمن الماضي؟ شجعتني هذه الزيارة، وما أثارته من أسئلة، على طرح الموضوع، على أمل أن ألقى بعض الأجوبة التي قد تزيل بعض الإبهام، وتوضح ما عجز صاحب الرواية الشفوية عن شرحه وتوضيحه؛ فكان أن طرحت الموضوع كتابة في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي؛ فتفاعل حسن دعبل مع الطرح، واجتذب الطرح مهتماً آخر من أهالي دارين، وهو المهندس جلال الهارون. زودني تفاعل حسن دعبل، وجلال الهارون، بمعلومات أدق من المعلومات التي وردت على لسان علي البوفلاسة، فمعلومات علي البوفلاسة وصلته عن طريق السماع من أسلافه، وأسلافه سمعوا بها من أسلافهم، وطال الرواية من العيوب ما يطال جميع المرويات الشفوية. من خلال مداخلات حسن دعبل، وجلال الهارون، عرفت أن مفردة «لِيْبيل» الواردة في بيت الشعر الشعبي الذي قاله علي البوفلاسة في مبتدأ زيارتنا له، والذي اعتقد علي البوفلاسة أن المقصود بها منطقة الجبيل، لم تكن كذلك، وإنما المفردة تشير إلى جبل خارج أبوظبي تجمع عنده الظاعنون قبل ظعنهم. عرفت أيضاً أن بعض البوفلاسة ظعن راكباً ظهور الإبل، وبعضهم جاء مبحراً، وأن لوريمر قد أشار في دليل الخليج إلى الزُّور، وأسماها «الفنية» تماماً كما كان ينطقها أهلها قبل وصول البوفلاسة إليها، و«الفنية» هي «الثنية» بمعنى «ثنية البحر أو طيته أو لسانه». كانت الزُّور فيما مضى، من البنادر (المراسي مفردها بندر/مرسى) المهمة، وكان يرسو على ساحلها حوالى 150 من سنابيك الصيد، وكانت الممول الرئيسي لسوق الأسماك في منطقة القطيف. صناعة النفط، ومغريات المعيشة المصاحبة لارتفاع دخول موظفي شركة أرامكو، وفتح أرامكو باب توظيف البحَّارة الذين لا يحتاجون إلى إلا القليل من التدريب والتأهيل، وبرنامج تملك البيوت الذي وضعته شركة أرامكو لموظفيها في البداية في مدن رحيمة، والدمام، والخبر، الأمر الذي أدى بكل من خرج من الزُّور طلباً لوظيفة في شركة أرامكو، أن يبني منزله بعيداً عن قريته، ويتخذ من المدينة التي حوت منزله الجديد، مدينة له بدلاً عن قريته. إضافة لكل ما سبق، فقد هبّت رياح تديين، ومذهبة الحياة من كل حدب وصوب، وأدت كل هذه العوامل مجتمعة، إلى التجريف البشري الذي أزال من الزُّور ما نسبته 90% من كتلتها البشرية. اللافت للنظر في هذه المسألة هو غياب العلوم المختصة عن رصدها، وتحليلها، ولولا اهتمام نوع محدد من المثقفين الأفراد بهذا الجانب الحيوي من التاريخ الاجتماعي، لما وصلني منه ما يستحق الذكر، ناهيك عن الكتابة عنه. * كاتب وباحث سعودي