أكد الأكاديمي شايع الوقيان، أن الخطاب الفلسفي لما بعد الحداثة لم يأت بشيء جديد كل الجدة، بل يعيد في أسلوب جديد ما تم تداوله منذ عصور قديمة تعود إلى «كانط» و«بيركلي» بل للفكر السفسطائي، فعندما يقول بروتاغوراس «إن الإنسان معيار كل شيء» فإنه يعبر عن النسبية المعرفية التي سوف يجعلها فكر ما بعد الحداثة شعارَه «الميتافيزيقي»، مضيفا أنه إذا كانت قيم الصدق «إضافة لقيم الخير وقيم الجمال» تنهض في إطار الاعتبارات الذاتية أو الثقافية فإن الواقع هنا لا يعود له أي دور. وقال في ندوة «أطروحة موت الواقع في الفكر الفلسفي المعاصر» بمنتدى الثلاثاء الثقافي: «إننا هنا نسجل نقطة تلاق بين فكر ما بعد الحداثة وفكر السوفسطائيين، فهما معا يؤمنان بأن العقل نسبي وليس كليا، أما الفكر الكانطي فإنه يطرح ما يمكن اعتباره كلية إنسانية ولكن نسبية واقعية»، لافتا إلى أن الواقع يرى بالنسبة لعقل إنساني ذي صفات كلية (مشتركة)، وأن فكر ما بعد الحداثة هو تطوير وتنويع على الفكر السوفسطائي، فهذا الفكر يراهن على البلاغة وليس على المنطق، على الإقناع وليس على الحجاج البرهاني. ويرى الوقيان أن الصراع بين الحداثة وما بعدها يتعلق جوهريا بفكرة الواقع، فالحداثة تقر بوجود واقع مستقل عن الإنسان والثقافة ومتعال على التغيرات التاريخية، بينما ترى ما بعد الحداثة أن الواقع مجرد أسطورة حداثية وليس ثمة وجود له، بل هناك صور عدة تحاول خلق واقعها الخاص. وأضاف: إن مفكري ما بعد الحداثة يكادون يجمعون على أن الواقع لم يعد واحداً وأنه لم يعد مرجعاً يمكن الاستناد إليه في الأحكام، فالواقع صار لغة واللغة ذات طابع ثقافي وزماني، وبما أن اللغة في هذا الفكر هي طريقنا الوحيد للواقع فإن الواقع ذاته سوف يكتسب من اللغة نسبيتها وتاريخيتها. وأوضح أن الواقع سواء أكان الواقع التجريبي أو الواقع الأخلاقي أو الجمالي ليس شيئا واحدا كليا مستقلا عن العقول المدركة، إنما لكل جماعة لغوية وفئة ثقافية واقعها، بل لكل فرد مخططه التصوري واللغوي الذي يصبح الواقع فيه واقعا فرديا وخاصا، كما أن غياب الواقع يعني في خاتمة المطاف غياب أي قيمة معيارية يمكن اللجوء إليها. واختتم حديثه بالقول إن الفلسفة الكانطية كانت أولى الإشارات القوية لغياب الواقع بمعناها الميتافيزيقي؛ فالواقع أضحى صورة للعقل، ومع الفكر المعاصر الذي جعل كل شيء لغة صار الواقع لغة وانفتح على التأويل بل إنه خضع للعب الدلالي الذي يجعل الإحالة النهائية إلى الواقع أمراً مستحيلا.