رغم السخاء الحكومي الهائل في الإنفاق على معظم خططنا التنموية العشر الماضية، فإن أعقد تحدياتنا الحالية نجمت عن التراخي في التنفيذ والتساهل في الرقابة والمحاسبة؛ نتيجة لذلك فإننا اليوم (حكومة ومواطنين) ندفع ثمن تقصير بعض أجهزتنا الخَدَماتية والرقابية؛ أقول ذلك الآن محذراً من تكرار نفس الأخطاء المرتكبة خلال الفترات التي حققت فيها ميزانياتنا فوائض كبيرة؛ كانت تسمح بالتعامل (الصائب) مع جذور التحديات لا مع أعراضها؛ كما نحن «مضطرون» لفعله الآن. الاستقدام نتيجة التقصير: ومن تلك الأخطاء التي لا تزال تلقي بظلالها القاتمة على اقتصادنا وأسواق عملنا، إهمالنا الطويل والغريب في إعداد جيل من الموارد البشرية (النوعية)؛ المؤهلة والمدربة في مختلف القطاعات التي تحتاجها البلاد، والتي أحوجنا نقصها لفتح باب الاستقدام على مصراعيه؛ بدون حساب للعواقب!، حتى بلغ عدد الوافدين 13.3 مليون ما بين عامل ومرافق؛ يستأثرون بنسبة مرتفعة من الدعم، وغالبيتهم من ذوي الياقات الزرقاء الذين نعاني نقصاً حاداً في عدد السعوديين المؤهلين والمدربين منهم. إصلاح الأخطاء السابقة: و«حديثي» اليوم ليس لوماً أو جلداً للذات بقدر ما هو تقرير لحقيقة مؤسفة نعرفها جميعاً ويصعب على بعضنا الاعتراف بها، راجياً أن تُحفِّز مخططينا ووزراءنا المعنيين ومستشاريهم للتعامل الصائب مع نتائجها الأليمة، ليبادروا لإصلاح أخطاء أسلافهم التي أوصلتنا للوضع الحرِج المتمثّل في محدودية فرص عمل شبابنا، واستنزاف مواردنا، وسيطرة الوافدين على قطاعات حيوية في اقتصادنا؛ قد يتأثر العمل فيها كثيراً؛ لو تسببت الرسوم الجديدة في مغادرة نسبة كبيرة منهم خلال فترة قصيرة. تفضيل الحلول الأسهل: ومع تراجع الإيرادات وتفاقم التحديات لدرجة استحالة استمرار الأوضاع على ما كانت عليه، بدأ المخططون والخبراء رحلة البحث عن حلول (إنقاذية)، فكانت الرسوم الجديدة على العمالة الوافدة الفائضة (بدءا من 2018)، وعلى مرافقيهم منذ بداية الشهر الحالي، هي الخيار الأسهل (وإن لم يكن بالضرورة الأفضل) الذي جادت به قريحة المخططين؛ كحل للتحديات السابقة؛ قبل أن يبدأ العمل بتحصيل بعضها أخيراً، وسط جدل كبير حول جدواها على الاقتصاد والتوظيف وعلاج تشوهات سوق العمل. الآثار الإيجابية للرسوم: والأكيد هو أن الرسوم الجديدة للعمالة ليست عشوائية أو مستحدثة، بل هي أسلوب سائد دولياً؛ تنتهجه بلدان كثيرة لمعالجة الخلل في أسواقها وتركيباتها السكانية، ويفترض أنها خضعت لدراسة دقيقة من قبل المختصين لمعرفة آثارها ونتائجها قبل رفعها إلى متخذي القرار لاعتماد تطبيقها، مثلها مثل مختلف الطروحات الأخرى؛ خاصةً بعد أن وُجِد أنها لا تخلو من فوائد ظاهرة؛ يتقدمها ما يلي: 1. توفير مصدر دخل متزايد سنوياً للخزينة العامة؛ من شأنه أن يسد نسبة من عجز الميزانية. 2. توفير نسبة من تكلفة الدعم الذي يستفيد منه الوافدون، وربما تراجع طفيف على الإيجارات. 3. إحلال المواطنين مكان (بعض) الوافدين المغادرين خصوصاً العاملين في وظائف إدارية. 4. البدء بتصحيح خلل تركيبة السكان بعد زيادة نسبة الوافدين للمواطنين لتصل لنحو 40%. 5. تراجع التستر التجاري وتعزيز الأمن نتيجة لتخفيض معدل الجرائم التي يرتكبها الوافدون. 6. إعادة توجيه الدعم للمواطنين لتراجع الطلب على المرافق العامة كالكهرباء والماء والوقود. الآثار السلبية للرسوم: ورغم الإيجابيات السابقة، فإن لرسوم العمالة وجهها الآخر أيضاً؛ والمقصود بذلك بعض السلبيات المتوقعة لتطبيقها، ولاسيما في هذا التوقيت الذي يمر فيه اقتصادنا بظروف استثنائية؛ لا تحتمل إمكانية ارتكاب أخطاء جديدة؛ حتى وإن كانت غير مقصودة كونها ستفاقم وضعنا المالي وسيستلزم إصلاحها وقتاً طويلاً وتكاليف مرتفعة، لا نملك رفاهية تبديدها، ومن تلك السلبيات: 1. أن دخل الرسوم لن يُشكّل قيمة مضافة كونها ليست استثمارات مستقطبة بل مستقطعة من الاقتصاد. 2. أن استمرار تباطؤ الاقتصاد سيؤثر سلباً على القطاع الخاص الذي نعوّل عليه لزيادة استثماراته. 3. أن تراجع القوة الشرائية لمحدودي الدخل بعد زيادة التكاليف، سيؤدي لانخفاض مستواهم المعيشي. 4. أن الوظائف التي يمكن إحلالها بسعوديين محدودة؛ كون غالبية العمالة الوافدة، فنية وتقنية ومهنية. 5. أن بعض المواطنين سيخسرون وظائفهم لإغلاق بعض المؤسسات غير القادرة على تحمُّل الرسوم. 6. أن غالبية شركاتنا ومؤسساتنا ستتراجع أرباحها لفقدانها نسبة من دخلها المتحقق من إنفاق الوافدين. ضرورة انتظار النتائج: على ضوء ما تقدم فإن المُحدِّد الأساس للحكم على جدوى الرسوم الجديدة، هو زيادة المصالح المتحققة منها مقارنة بالخسائر المترتبة عليها، وهو أمر من المبكِّر الحكم عليه، إذ لابد من انتظار نتائج تطبيق الرسوم لمدة عام على الأقل، قبل أن يخضع البرنامج لمراجعة شاملة؛ تراعي (كافة النتائج) وليس المالية منها فقط؛ وفي مقدمتها الأثران الاقتصادي والاجتماعي؛ وربما الأمني أيضاً، قبل أن تتم مناقشة تلك الآثار في مجلسي الوزراء والشورى تمهيداً لاتخاذ القرار المناسب بشأن استمرار الرسوم من عدمه. جاذبية الحل (المالي): وشخصياً، لن يفاجئني الإعلان بعد فترة؛ قد تطول أو تقصر عن إلغاء أو تعليق أو تخفيض الرسوم الجديدة، إذا ما اكتشفت الأجهزة المختصة أن الركون للحل (المالي) رغم جاذبيته وضرورته حالياً؛ قد يكون غير مُجدٍ (على المدى الطويل) للتعامل (الأمثل) مع مشكلات سوق العمل، خصوصاً لو أثبت التطبيق أن انعكاساته السلبية تفوق إيجابياته؛ حتى وإن أسهم في رفد الخزانة العامة ببضعة عشرات المليارات؛ قد لا تُشكِّل نسبة عالية من الناتج الإجمالي المحلي أو من الميزانية العامة. دور (التعليم) و(العمل): وبعيداً عن تفاصيل مبالغ الرسوم التي باتت معروفة، ومقدار الدخل المتحقق منها، والجدل الدائر حول أثرها تجاه تضييق الفجوة بين العرض والطلب على الوظائف، وخفض بطالة السعوديين، وتقليل الاعتماد على الوافدين، أعتقد أن وزارتي العمل والتعليم - بمساندة ضرورية من وزارة التخطيط - هما الوزارتان اللتان ينبغي أن يبدأ منهما الحل (الأصوب والأدوم) لمشكلاتنا السابقة، عوضاً عن الاعتماد على الحلول سريعة التجهيز؛ التي يتم إعدادها على عجالة في أروقة وزارتي المالية والتخطيط. أهمية علاج الأسباب: ولا شك أن تجاهل الأسباب الحقيقية والواضحة للمعضلات، لن يؤدي لحلها تلقائيا بل لتفاقمها؛ في حين أن اتخاذ إجراءات تتعامل مع الأعراض وليس مع المسببات الفعلية، سيطيل حتماً أمد الأزمات، خصوصاً بعد أن ثبت أن النقص الكبير في الكفاءات الوطنية المتخصصة في مجالات حيوية، كان وسيظل السبب الأبرز لمعوقات خلق فرص العمل، إضافة لعدم مواكبة التشريعات لمتطلبات الحلول المنتظرة. وزيران بيدهما الحل: لكل ما تقدم أتمنى أن يصل وزيرا التعليم والعمل إلى قناعة مشتركة تدفعهما لما يلي: أ)- استجابة وزير التعليم لمطلب التوسُّع في نشر التعليم الفني والمهني؛ بدءا من المرحلة الثانوية. ب)- مبادة وزير العمل لسعودة كافة الوظائف (البيعية) والمكتبية والإدارية في أسواقنا وشركاتنا. أشير هنا إلى أنني سبق أن كتبت عدة مقالات؛ رجوت فيها الوزيرين التفضل بدراسة المقترحين أعلاه تمهيداً لتنفيذهما في أقرب وقت، ولكن لم تجد مقالاتي تلك تجاوباً يُذكر؛ وكأنّ الموضوعين لا يخصّان هاتين الوزارتين!، علماً بأن هناك مئات الآلاف من الوظائف المكتبية والبيعية (الجاهزة) للإحلال؛ والمشغولة حالياً بوافدين تحت غطاء (تمويهي) يسمى (الآوت سورس)؛ خصوصاً في قطاعي التجزئة والخدمات، وهي وظائف لا تحتاج لمؤهلات تقنية وحرفية؛ كالتي نعاني من نقص كبير فيها. توفير الكفاءات والفرص: وأثق بأن المقترحين السابقين سيسهمان في حل مشكلتي نقص المهنيين السعوديين، وإصلاح خلل سوق العمل؛ كون (الأول) سيوفر (تدريجياً) ما نحتاجه من الأيادي الوطنية المدربة والمؤهلة التي تحد من الحاجة للاستقدام، في حين سيوفر (الثاني) مئات آلاف الوظائف لشبابنا؛ التي يشغلها حالياً وافدون لا يمتازون عن معظم خريجينا سوى بانخفاض رواتبهم، وقبولهم لساعات عمل طويلة؛ لا يستطيع المواطن القبول بها؛ لاعتبارات معروفة. حد الأجور وساعات العمل: أخيراً فإن الحلل الخاص بمعالجة نقص الأيادي الفنية والمهنية الوطنية هي بطبعها طويلة الأمد، لذلك لن تحقق النتائج المرجوة منها سريعاً، إذ تتطلب سنوات من العمل الدؤوب الجاد والمخطط له جيداً، ولكنها في تقديري مضمونة الجدوى، خصوصاً لو ترافقت مع إجراءات أخرى تكميلية يتصدرها إقرار حد أدنى للأجور، وتنظيم وقت عمل الأسواق، وهيكلة التعليم على نحو يمكننا من وضع أهداف سنوية رقمية لإعداد الخريجين في المجالات التخصصية والفنية والمهنية التي نعاني من نقص السعوديين فيها؛ يتصدرها التخصصات الطبية والهندسية والإنشائية والصناعية والخدماتية. تغريدة: العمالة الوافدة لم تهبط علينا من السماء بل نحن من استقدمها لتساعدنا على أداء أعمال لم نُهيِّئ الكثير من أبنائنا للقيام بها؛ بعد أن تراخينا طويلاً في «تجهيزهم»!.