هل قبضت يوماً على لحظة شعرت فيها أنك خارج العالم وأن لا جسد في الثوب الذي ترتديه؟ البارحة كنت أقرب إلى ذلك.. ففي ساعة متأخرة وبعد أن مال الضوء إلى الزوال وانهمر الظلام وبينما كنت أُهادن الليل وأتملق للنوم من أجل حلم.. أي حلم يعيد طيفها إلي!! صحوت على نقرات خفيفة.. فتحت الباب.. ظهرت أمي برداء أبيض تتوكأ على عصاء وتحمل شمعة.. قالت لي يا ولدي من ترك دموعه الساخنة على خدك وتوارى؟ قلت لها هذه الصورة التي ترينها على حافة السرير بعد أن تضايقت من بقائها معلقة على سطح الحائط الذي استلقت عليه منذ رحيلك خاصمته الليلة لأنها تريد أن تنام بجانبي.. أليس كل هذا الحنين قادراً على أن يترك الدموع الساخنة على خدي!! نظرت إلي بصبر وقالت ألم أقل لك يوماً يا ولدي إن الحنين باب كبير من يدخله لا يعود!! قلت لها لا أريد أن أرحل ولا أريد أن أعود.. أريد أن يبقى طيفك معي فقد اشتقت إليك.. قالت لي لا بقاء للأطياف إلا في الذاكرة.. قلت لها وإن جارت الذاكرة.. قالت لي أغدر بها باليقظة.. ودون مقدمات غادرتني (التركية) بعد أن سحبت عصاها وتركت لي الشمعة ليكسوني الضوء.. تسللت بعد رحيلها عشرات النقرات والأسئلة.. (باب كبير من يدخله لا يعود.. وأن لا بقاء للأطياف إلا في الذاكرة) لكم أنت صادقة ولكن هل تعلمين يا أمي أنه حتى الذاكرة تعتذر عن الذكريات أحياناً.. واشتد بي المساء وتضاعف حماس الشمعة وعصبت يداي عيني وأخذت أدور في أرجاء الغرفة بحثاً عن طيفها من جديد.. أحاول أن أستحضر بستان المانجو بنت الحسن وقريبة المنى من على صدغيها وشم الحمام وعلى ظهر كفيها رسوم تفاح وورود وعقيق.. القرنفلة التي حمصتها الشمس.. حبة الهيل وموجة الطيب والعنبر والبخور.. غربة فظيعة أن لا أستطيع استحضار طيفها عندما أريد.. فتحت الباب المؤدي إلى أيام حياتي.. جلست على أقرب كرسي بكلتا يدي أغمض عيني هامساً أين هي اليوم.. عدت مرة أخرى لغرفتي أتأمل الشارع الخالي من النافذة؛ تخيلت أناساً بملابس زاهية يبزغون من البحر يلوحون لي بالهبوط.. أسدلت الستارة وأحكمت إغلاق النوافذ كنت أهرب منهم.. عدت للطاولة في ركن الغرفة مرحباً بنفسي داعياً الحديث إليها.. سألتني لِم لا تنام.. قلت لها لقد أصبح النوم بارداً وجسمي لم يعد يتحمل انتظار الأحلام.. قالت لي الصباح سيفرج عن كل شيء إن نمت.. قلت لها إن اليقظة ستلتقطني من غياهب النوم.. قالت لي لا بد أن تنام لتصحو على كل حال.. ونمت لأصحو على خيال طيف جميل وجدته عند حافة نافذتي.. سألت الناس الذين يرتدون الملابس الزاهية من أهداني هذا الصباح الجميل ومضى، فنصحوني بالصمت حتى لا أجرح الهدوء والفرح.. وحملت هوائي على شفتي الباردة حتى لا تفضحني كلماتي التي تحاول التمرد على الصمت وبعد أن تعبت الأسئلة.. سألت أمي من أحضرك لي في هذا الصباح الباكر؟؟ قالت لي لقد تسرب حزنك البارحة إلى وجهي فلم أستطع النوم.. ودنت هامسة لتقول لي لا تسرف في الهم والحزن فقد أتيت بك للحياة لتفرح.. قلت لها الهم للأسف غيابك ان كنت لا تعلمين.. وكل الأحزان إذا مر بها الفرح استيقظت ولكنك لا تمرين.. قالت لي تركت الزمان لينوب عني ويمر عليك ليغسل أسى غيابي عنك والتفت للزمان أخاطبه.. لو كنت تعود يا زمان لأحضن طيفها المخمور في جفني كل يوم ومضى الزمان إليها من جديد.. رحمك الله يا من كنت تزينين أيامي!.