لا يختلف اثنان على أن التعليم الصحي والإنفاق عليه مكلف جدا، ويعتبر الاستثمار في هذا القطاع سواء الحكومي والخاص إذا لم يتم تأسيسه بكل احترافية فإن استمراريته ستكون بتكلفة كبيرة إذا أردنا الخروج بكفاءات جيدة لسوق العمل، فجميع التخصصات الصحية تحتاج في المقام الأول إلى كادر تدريسي مؤهل ومطلع ومواكب لأحدث التقنيات، وكذلك يحتاج إلى بنية تحتية من مستشفيات جامعية ومعامل تدريسية تحتوي جميع ما يتطلبه الدارس من أجهزة طبية ومعدات ومستهلكات طبية على مدار العام. التعليم الصحي يختلف تماما عن أي تعليم آخر فمتطلباته تتغير بتغير المرحلة التقنية ومن الصعب جدا أن تقوم بتدريس تقنيات معملية وسريرية قد مر على تطبيقها سنوات وعفى عليها الزمن وعند نهاية المطاف يحتاج هذا الخريج لوقت طويل من التدريب، وقد يمتد لسنوات حتى يستفاد منه في سوق العمل أو من أراد إكمال دراسته التخصصية كالأطباء مثلاً، يجد صعوبة بالغة في الحصول على قبول للزمالة الأمريكية أو الكندية في الوقت الحاضر، بينما قبل عشرين عاما كان الطبيب السعودي مرحبا به في جميع تخصصات الزمالة الخارجية وبدون صعوبة كما نشهده في الوقت الحاضر.. فما هو السبب؟ المملكة الآن اعتمدت معايير منظمة الصحة العالمية في القطاع الصحي، حيث أصبح الممارس الصحي لابد أن يكون من حملة البكالوريوس في جميع التخصصات الصحية وهذا التوجه الإيجابي للارتقاء بالخدمات الصحية لابد أن يرفع من التكلفة المالية لقطاع التعليم الصحي، وهذا ما حدث في العشر السنوات الأخيرة من افتتاح العشرات من كليات الطب البشري والأسنان والصيدلة والعلوم الطبية التطبيقية بمختلف تخصصاتها وكليات الصحة العامة (كانت تتبع لوزارة الصحة تحت مسمى كليات العلوم الصحية)، وكذلك افتتاح كليات جديدة في مجال التمريض. مع كل الاحترام لمن قاموا بالتخطيط لتنفيذ الأمر السامي من المختصين في القطاع التعليمي الصحي بتحويل الشهادات الصحية من دبلوم جامعي متوسط إلى شهادة بكالوريوس لم يأخذوا في الحسبان أن لكل زمن دولة ورجالا فقد قاموا بإنشاء كليات مستقلة وكأنهم يخدمون فقط التخصصات الأم مثل الطب البشري والأسنان والصيدلة والعلوم الطبية التطبيقية، ولم يراعوا أن الاستمرارية في الخروج بمنتج تعليمي مؤهل وأعني بذلك الخريج يحتاج إلى ميزانية باهظة لنخرج بمنتج عالي الجودة لا يحتاج إلى مزيد من التدريب والتأهيل. ما تعيشه الآن الكليات الصحية في الجامعات السعودية من رغد في التمويل وفقاَ للتأسيس غير المقنن والمبني على الاستقلالية والفكر القديم بأن التعليم الصحي يقتصر على الطب البشري والأسنان والصيدلة لن يستمر طويلاً إذا لم يتم إعادة هيكلة شاملة لهذه الكليات وفقاَ للاحتياج. هناك مواد علمية وقاسم مشترك بين جميع هذه الكليات، وخصوصاً في السنتين الأوليين من دراسة العلوم الصحية الأساسية، أما الحال الآن فهناك حوائط جدارية وعقول بشرية تمنع هذا التناغم والتنسيق بين هذه الكليات، وإن كان هناك تنسيق في الوقت الحاضر ولكنه ضعيف وهش ولا يرتقي للعمل المقنن، فكل كلية لها وكالة شؤون أكاديمية مستقلة ولا يجمعها سواء بعض المقرارات المشتركة القليلة، وهناك قصور في التنسيق ومتطلبات المقرارات المالية وكل كلية ترمي بالكمال أو التقصير على الكلية الأخرى.. والضحية هو المنتمي لهذه الكلية من عضو هيئة تدريس ودارس فيها. هذا هو الحال في جميع الكليات الصحية في المملكة باستثناء جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية، فهل تكون أنموذجاً يحتذى به في الجامعات الأخرى؟.. أتمنى ذلك. * أكاديمي سعودي