الإنسان لكي لا يفقد إنسانيته؛ أي طبيعته العليا، عليه أن يبقى في حال مجاهدة دائمة للتأثيرات السلبية للدنيا المحبطة للوعي الفكري والقلبي والروحي، وإلا سيجد نفسه وقد حولته الدنيا إلى مجرد آلة بلا فكر ولا قلب ولا روح، وأبرز التأثيرات السلبية للدنيا؛ التبلد بفقد الإنسان للوعي الحساس بالآخر مع التعود والروتين، وهذا سبب سلوكيات القسوة الصادمة التي يتصرف بها الناس في وظائفهم حتى منها التي يفترض أن تكون لهم فيها طبيعة رحيمة متعاطفة كالعاملين بالقطاع الصحي ودور الرعاية، بل حتى الأهل، ومقاومة تحجر القلوب مع سيادة التعود وروتينه لا يتطلب كثير عناء، فهو يتطلب فقط أن تفكر بشعور الطرف الآخر وتحترم عاطفته، فكر برأيه فيك، واستحضر نوعية الشخص الذي ستصبح عليه مع سيادة هذا السلوك القاسي في شخصيتك، وأقدارك في الدنيا والآخرة هي رهن بنوعية شخصيتك ومعاملتك وأنت خالد للأبد مع هذه الشخصية وعواقبها الأبدية، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي البرزخ ستتجسد لك أعمالك، والسيئة منها ستكون كشيطان يروعك، تساءل: هل يسرك أن تتزوج أحدا يشبه شخصيتك؟ (..الخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين..). ولما كلم الناس الخليفة عمر بن عبدالعزيز ليشدد على خادمه وولده لعدم مهابتهم له قال: «لن نصلح أخلاقهم بأن نفسد أخلاقنا»، أي الشدة تفسد أخلاق صاحبها، استحضر حقيقة أن الدنيا مدرسة ولتستوعب دروسها، هناك سنن ظاهرة وباطنة تجعلك تذوق ما أذقته للآخرين؛ «كما تدين تدان»، «ما خرج منك سيعود إليك»، «الجزاء من جنس العمل»، ولهذا إن تكبرت على وضع نفسك مكان الإنسان الذي لا تأبه لأذيتك المادية والنفسية له وتكبرت على مراعاة اعتباراته ومشاعره، ستجبرك الظروف رغما عنك على أن تعيش مثل تلك الأحوال بشكل أو بآخر، ولا تتوهم أن الشحنة الهائلة لطاقة الغضب والفجيعة والألم والصدمة والمعاناة والدعاء عليك لا تؤثر بأحوالك وصحتك، والدنيا بكل ما فيها هي مجرد وسائل وليست مقصودة بذاتها وليست سيئة بذاتها إنما هي مجرد أدوات لكي يكرس بها الإنسان ذاته على أمثل المثاليات العليا عبر مجاهداته لكي يبقى طافيا متساميا فوق سطحها كزهرة اللوتس التي تنمو في البرك الموحلة لكنها مع هذا تبقى محافظة على بهائها وسلامتها من الأوحال، ولهذا السبب ولهذه العبرة اعتبرتها الشعوب القديمة كالفراعنة والهندوس والبوذيين وغيرهم رمزهم المقدس الأساسي، فالحكمة الجماعية للشعوب استوعبت أن هذه الزهرة هي رمز للحال المثالي السلوكي الروحي للإنسان في الدنيا مع كل مؤثرات الدنيا السلبية.