معظم المثقفين العرب، الرافضين لسياسات الغرب المتنفذ السلبية تجاه العالم العربي والإسلامي، لا يكرهون هذا الغرب، بل إن غالبيتهم تحمل لدوله الإعجاب، والتقدير، وتشيد بتفوقه ونبله في أغلب ميادين الحياة، عدا مجال السياسات الخارجية. إنهم يعجبون بإنجازات الغرب المتنفذ الحضارية، وأعماله القيمة، لخير البشرية، ويثمنون مساهماته العظيمة في جوانب الطب والعلوم والهندسة والإدارة والزراعة والصناعة... إلخ. فهي، دون شك، مساهمات جديرة بالتقدير والاحترام. وكذلك أنظمته السياسية والإدارية الداخلية، التي مكنت دوله من تبوؤ مكانة عالية بين الأمم، وبلوغ هذا التقدم الحضاري، المبهر حقا، ولكن معظم «سياسات» هذه الدول الخارجية، وخاصة تلك المتعلقة بالعالمين العربي والإسلامي هي سياسات سلبية، وانتهازية فظة، باعتراف بعض الغربيين أنفسهم. ومعروف أن «عقدة الخواجة» تعني في بلادنا العربية: اعتبار كل ما يأتي من الغرب، المتنفذ وغير المتنفذ، جيدا ومتفوقا ومقبولا، لأنه «أفضل» على الإطلاق، من غيره!... وغالبا ما كانت هذه «العقدة» تقتصر على الأشياء والخدمات والعادات وبعض الأفكار. وكثيرا ما تبين أن مضمون هذه العقدة مضلل، وغير صحيح على إطلاقه. الذين يتحفظون على معظم سياسات الغرب المتنفذ الخارجية، وخاصة تلك المتعلقة بالعرب والمسلمين، أدركوا زيف هذه العقدة، بعد أن اكتشفوا حقائق صارخة وصادمة عن هذا الغرب، وخاصة في ما يتعلق بتعامله خارج حدوده. *** ونتيجة للانبهار بالأقوى، ظهرت فئة من المثقفين العرب تؤمن بأن كل ما يقوله ويفعله الغرب المتنفذ صحيح... بما في ذلك أغلب سياساته تجاه العرب والمسلمين. ويمكن القول إن هؤلاء قد وقعوا ضحايا وأسرى عقدة الخواجة، وبقوة، حتى أصبحوا يؤمنون بمضمون هذه العقدة وجوهرها على إطلاقه. وبالتالى، ظهرت هذه النسخة الجديدة من هذه العقدة، التى كنا نظن أنها على وشك الاندثار. والبعض يصف هؤلاء (المتيمين/ الضحايا) ب «المستغربين» أو «المتأمركين»، أو «المعقدين الجدد»، الخ، لا تهم التسمية. *** لعلنا نتفق مع «المعقدين الجدد» بأن من حق الغرب غير المتنفذ (غير المطلق) أن يتخذ ما يشاء من سياسات، لخدمة ما يرى أن فيه صالحه – شريطة عدم الإضرار بآخرين، ونبصم بأصابع اليدين العشر بأن: وضع معظم العالم العربي والإسلامي «مزرٍ»... وربما تكون درجة سوئه قد وصلت إلى مرحلة الانحطاط. هذه أمور لا يختلف عليها الحكماء، ولا ينكرها عاقل. ولكن، أليس من حق (بل واجب) المثقفين العرب والمسلمين، وهم الطبقة المستنيرة ضمن المتضررين، أن يصفوا الظلم و«العدوان» باسمه... ويستنكرونه، بل ويقاومونه، ما استطاعوا؟! إن ما يقولونه من «مبررات» ربما يكون مقبولاً، ومفهوماً، إن صدر من غربيين غلاة. أما أن يجيء من أهل «الضحايا» أنفسهم، فهو أمر يثير الدهشة ومشاعر أخرى سلبية. ثم إن هؤلاء المعقدين الجدد ينكرون دور ومسؤولية الغرب المتنفذ في ما وصل اليه العرب من ضعف وهوان وتخلف. *** إن من واجبات المثقف العربي الحقيقى الذود عن حياض أمته، والمنافحة عنها ضد كل الاعتداءات، وأياً كان مصدرها، وبصرف النظر عن كونها آتية من دول «عظمى» متفوقة، أو من دول حقيرة متخلفة. و«وضع» الأمة العام ليس مبرراً لقبول المثقف لأي ضرر، أو مكروه يحيق بها... فيزيد طينها بلة. يجدر بالمثقف أن يشخص ما بأمته من علل... ويقترح العلاج، ثم يحاول تقديم ما يمكنه تقديمه، لإغاثتها... متقدمة كانت أو متخلفة... ناهضة أو قاعدة... لا أن يأخذ الأمة -التي هو أحد عناصرها- بجريرة فئة ضالة أو مستبدة فيها، أو يعيرها بتخلفها، ويشمت في تعثرها، ويبيح دمها لمن هو «أقوى» منها... فما أحرى المثقف العربي والمسلم خاصة أن يكون له «موقف» إيجابي تجاه أوضاع قومه وأمته... حتى لو بقي وحده في ساحة النزال يناضل، وكان «آخر الشرفاء». ثم أين الموضوعية والحياد في هذا الطرح الممجد باندفاع مقيت للغرب المتنفذ؟! ولماذا تضيق فيه مساحة العقيدة والمبادئ الإنسانية النبيلة والوطنية والقومية، وتتسع دائرة الانحياز الأعمى للأقوى، وإلى هذا الحد المخجل والمفزع؟! إن قمة الانحياز الكريه هو أن تكون «عيون» المنحاز عن كل عدوان على أمته كليلة، لا ترى سوى ضعف تعيبه، وقوة غاشمة تحابيها.