على الرغم من أن سيرتها ممتدة لآلاف السنين ،إلا أن موروث الجنبية النجرانية ( جمع جنابي ) ،لازالت متمسكة بالرجل النجراني بل وملتصقةً بجسده وتحتضنه كأنها جزء منه. وليس عجباً هذا الارتباط الوثيق ، إذ تفيد النقوش المكتشفة أخيراً في منطقة حمى وجبال نجران لوجود الجنبية في الثقافة القديمة ،وسريانها إلى عصور الحميريين وصولاً لمملكة سبأ ، حيث ازدهرت الجنبية كسلاح نافذ مثل السيف والخنجر. أما الجنبية اليوم فوجه ثقافي للنجرانيين ، فبعد أن كان من ضروريات الحياة قبل مئات السنين تحول للزينة الرجالية ومدعاة فخر وزهو ، فكلما غلا ثمنها ارتفعت قيمة لابسه لدى المحليين. وعُرف عن أهل تلك الناحية التجمل في اللباس والتميز ، فإزار اللباس النجراني زاهي اللون شبيهة بإزار السارونغ في ماليزيا وإندونيسيا ،وعليها قمصان سوداء مزخرفة ، توجد تبايناً جميلاً مع الثوب السعودي الأبيض المناسب لأجواء الصحراء. ويصل قيمة الجنبية الواحدة - بحسب البائع صالح أبو طهيف - لأكثر من "100 ألف " ريال ، وأقلها سعراً يصل ل " 200 "ريال ، وذلك بحسب المواد المضافة للجنبية وطريقة صنعها وقدمها. وفي وسط السوق الشعبي في منطقة نجران يتجمع الصناع المهرة الذين تتراوح أعمارهم من (40 سنة إلى 80 سنة ) ،مازالوا متمسكين بهذه الصناعة التي تدر عليهم مالاً وفيراً. يقول صالح أبو طهيف ( 54 عام ) الذي أمضى في مهنة صناعة الجنابي وبيعها أربعين عام : "أنا أعشق حرفتي ومازلت مستمراً لأنني سعيد وأكسب مالاً وفيراً منها ما يؤمن مصدر رزق لي ولأبنائي". ويتحدث عن الجنابي وهو ممسك بواحدة منها تبلغ قيمتها عشرة آلاف بالقول : "هذه الجنبية مثلاً من نوع زراف ذات الرأس الأرجواني والمطعمة بالفضة والنصل المصنوع من الحديد الخالص". وتتكون الجنبية من أجزاء منها المقبض أو الرأس ،وأجود نوع منها يعرف بمقبضها وهو يتحكم في سعرها ، ومن أبرز أنواع الرؤوس "الزراف" و "الصيفاني "و " القرن "وتصنع من قرن حيوان وحيد القرن. ولأجل المكانة الاجتماعية تختلف مقابض الرؤوس بحسب كمية الذهب الخالص والفضة المزينة بالجنبية. وفي زاوية السوق الشعبي في المنطقة التاريخية بنجران يرصع الحرفي عامر محمد حسين (60عام )مقابض الجنبية بالذهب خالص عيار"21" وهو عمل يتطلب مجهود مضاعف ومهارة ودقة وتركيز ، لأنه بانتظار زبون سيدفع مقابلها "70 ألف " ريال . وتسهم دقة الصنع وقدم الجنبية في رفع سعرها واحتفاظ الأجيال بالجنبية وتوارثها كابر عن كابر ،وهو ما أكده صالح آل سليم الذي قدم من خارج المنطقة ليبيع جنبيتة التي توارثتها ثلاثة أجيال متعاقبة لدواعي الحاجة للمال. ويقول بنبرة يعلوها الحزن : ورثت هذه الجنبية من أبي الذي ورثها من جدي الذي ورثها هو الآخر من أبيه والآن جاء الوقت لبيعها نظراً لحاجتي للمال ، ورأى أن سعرها سوف يسدد دينه ويقضي حاجته المالية ، ويؤكد أنه سيشتري أخرى في حال توفر المال لديه. وللجنبية غمد يسل منه النصل أو السلة وهي قطعة معدنية حديدية مائلة إلى اليمين بالغة الحدة، فكلما ثقل وزن الحديد المصنوع منه النصل زاد وزنها وقوتها ، وتصنع من الحديد الخالص أو من الرمان بلي ، بالإضافة إلى الحزام وسكين أخرى صغيرة تكون بجوار الجنبية. وتستغرق صناعة الجنبية الواحدة ثلاثة أيام وفقاً للبائع والحرفي أبو صالح الذي أمضى قرابة (50 سنة ) في تخصص بيع الجنابي. ويظهر آل سليم أن الجنبية ما برحت مصدر فخر للرجل النجراني وهي علامته الفارقة. ويتخصص حالياً أبو صالح في صناعة الأغماد والحزام الذي يلتف على الجذع. يقول أبو صالح :" الغمد يصنع من الخشب وشجر العشر، وهو مجوف الشكل، توضع الجنبية داخله لحمايتها من التلف ، ويمكن إعادة تجديد الغمد إذا تآكل بفعل الاستخدام أو جراء الزمن الذي تحتاج معه الجنبية إلى تجديد". ويضيف : "أما الحزام فمصنوع من الجلود ويستخدم لربط الجنبية حول الخاصرة بعرض 2 3 بوصة". وبالصدفة التقت " واس " بسمسار الجنابي وهو الشاب عبد الله آل حمامة الذي قال بحماسة : "الجنبية مدعاة للفخر ، وهي ليست موروثاً ثقافياً للرجل النجراني فحسب بل - سلب الرجل - "، ويقصد أنها جزء أساسي من تكوين اللباس الرجال. ويلتفت الشاب عبد الله إلى مجموعة زبائن رافعاً بيده اليمنى الجنبية المكسية كاملاً بالفضة ويبدأ أحدهم بفتح باب المساومة بقيمة "7600 "ريال. ووفقاً لجملة من الباعة هناك فإن للجنابي ومقابضها أنواع أشهرها "العماني " و "الوتر " و "الصيني "،والقرون ومنها "الحضرمي "و "العماني" و"الحدادي". وكان الناس قديماً في نجران يرتدون الجنابي لأجل الدفاع عن النفس باعتبارها سلاحاً قاطعا كالسيف، فيما تستخدم حاليا للزينة، ويرتديها الناس في المناسبات كرمز للأصالة ومصدر للفخر، ولها قيمة اجتماعية عالية يتفاخر بها الناس فيما بينهم إلى درجة أنها تعتبر أغلى هدية يقدمها أهالي نجران إلى من يحبون. وعرفت الحضارة النجرانية الجنبية منذ آلاف السنين طبقاً للنقوش المكتشفة في مناطق "حمى "والجبال المجاورة للمنطقة ،كما عرفت منذ عهد الحميريين وسبأ. هذا ويمتاز سوق الجنبية في منطقة نجران بأنه السوق الوحيد بالمملكة المختص بالخناجر المصنوعة محلياً ، وبسبب أهمية الجنبية في الثقافة النجرانية، فقد أصبح هذه السوق الصغير الذي يحتوي على 20 تاجراً محطةً مهمةً لزوار نجران ، ويضيف لأهميته قربه من سوق يقوم تجاره بطحن الدقيق وبيعه. ويضم السوق إلى جانب ذلك سوق الخرازين المختصين بالمنتجات الجلدية المختلفة ، بالإضافة إلى سوق التمور الموسمية، وسوق الحدادين. وأعيد ترميم السوق الشعبي في أبا السعود مؤخراً، وفيه محلات لبيع المنتجات الشعبية، وخاصة السلال اليدوية الملونة ، والمشغولات اليدوية.