بعد ان وقع الفأس ( 2 - 2 ) تتمة للمقال السابق...وحتى تتضح الصورة اكثر ونبيّن هذا الكلام النظري بأمثلة واقعيه فما علينا سوى الرجوع الى تاريخ اولئك التكفيريون المتشدّدون. فمثلا العام 1917م خرج الأخوان من نجد ل"هداية اهل نجران وإدخالهم في ألإسلام لكنهم هزموا شرّ هزيمة وعادوا يجرون اذيال الخزي. اعادوا الكرة مرة اخرى بإعلانهم التمرد على الملك عبدالعزيز فتم القضاء عليهم( افرادا لاافكارا ) في معركة السبله العام 1927م. ثم بعث فكرهم من جديد فيما عرف ب"حادثة جهيمان العتيبي ورفاقه"العام1979م حيث اعلنوا ان مهديهم المنتظر محمد بن عبدالله القحطاني" سيملأ الأرض عدلا بعد ان ملئت جورا " لكن املهم خاب وسحقوا( افرادا لاافكارا ). جدير بالذكر هنا - ولأن الشيء بالشيء يذكر ونحن نلحظ مايجري في صعده في شمال اليمن من صراع مرير بين الحوثيين وأنصار معهد ( دار الحديث ) من "اهل السنة والجماعة" في منطقة دماج في صعده - أن نعود الى الوراء قليلا إلى بداية الستينات الميلادية عندما انتزع من عرف لاحقا بالشيخ مقبل بن هادي الوادعي من بيئته الزيدية في صعده ثم حوّل الى"مذهب اهل السنة والجماعة"على ايدي المتشددين والتكفيريين في المملكة وظل يصول بها ويجول ويغذى بالتطرف ضد المذاهب الأخرى حتى صار متطرفا اكثر من صنّاع التطرف انفسهم ولأن طريق التطرف يؤدي دوما إلى التهلكة , فقد طرد لاحقا من المملكة اثر مشاركته في حركة" جهيمان العتيبي ورفاقه " حيث صاغ لهم بيانهم الأول ونسّقه وابدى تعاطفه الشديد معهم ومع افكارهم وبدلا من ان يعود الى ربه ورشده عاد الى صعدة . لكن ماذا لو تخيّلنا لوهلة ان الشيخ مقبل بن هادي الوادعي بقي في قريته ( دماج ) بصعده زيدياً كما كان وأهله ولم ينتزع منها انتزاعا ؟!! أولم سيوفر ذلك الكثير من المآسي على الشعبين اليمني والسعودي التي مازالت تجري حتى ألآن . لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل اتت موجة أخرى من التكفيريين والمتشددين في بداية التسعينات الميلادية حيث لمع نجم اسامة بن لادن ورفاقه وهم تلك العصا من تلك العصية لافرق و( انجازاتهم العالمية ) معروفة للجميع ومازالت السلسلة مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. منذ الانضمام الاختياري والطوعي لمنطقة نجران في الثلاثينات الميلادية الى كيان المملكة العربية السعودية وحتى الآن ترك –للأسف - لفؤوس كثيرة ان تقع على رؤوس اهل نجران ( وهم اهل الحسام الضارب والسنان الثاقب ) بعلم المعنيين في احيان وبدون علمهم في احيان اخرى وقد كان النجرانيون في كل مرة يحاولون ان يبتلعوا آلامهم ويعلقوا آمالهم بالله عز وجل اولا ثم بالدولة التي قبلوا الانضمام اليها طوعا وبإرادتهم الحرة وهي الدولة المسؤولة مسؤولية كاملة شرعا وقانونا وعرفا عن حمايتهم والدفاع عن حقوقهم الكاملة الغير منقوصة والغير قابلة للتأويل او الانتقائية . الدولة التي بمجرد ان انضموا اليها أضحت البديل الملزم بالقيام بكافة المهام المناطة بها تجاه مواطنيها. تلك المهام التي كان اهل نجران الي ماقبيل انضمامهم للكيان حديث النشأة آنذاك ( المملكة العربية السعودية ) يمارسونها بأنفسهم بجدارة ويقومون بها ويشرفون على تنفيذها وهي مهام من صميم اعمال الدول بالمعنى القانوني للدولة (ارض وشعب وحدود وسياده وسلطة ..الخ ), حيث كانوا يحمون الحدود والأرض داخليا وخارجيا ويتبادلون علاقات حسن الجوار مع محيطهم القريب والبعيد بل تعدّى ذلك الى ان لعبوا ادوارا توفيقية بين الأطراف المتنازعة على السلطة والنفوذ في جنوب الجزيرة العربية كما استخدموا نفوذهم القوي والمشهود في ذلك الحين بشكل ايجابي ومدروس مع الآخرين وحفظوا الأمن ونصروا المظلوم وردعوا الظالم وما الى ذلك من اعمال. لكن مالذي حصل بعد ذلك ومازال يحصل؟!! الذي حصل ومازال يحصل انه في كل مرة وعندما تقع الفأس في الرأس وتتطور الأمور الى الأسوأ تبدأ نظرية"تبويس اللحى" ونظرية"امسحها في وجهي" ونظرية"حتى نحن لا يمكن ان نرض لكم هذا " وهلم جرا...ثم لاتلبث ان تعود حليمة لعادتها القديمه وكأنك "يابو زيد ماغزيت". اذا كان هذا هو الوضع السائد منذ ثمانية وسبعين عاما تقريبا فإن العقلاء لابد وان يطرحوا السؤال الوجيه التالي:اين الخلل الذي يسبب كل هذه التوترات والتشنجات بين فترة وأخرى والتي تخبو في فترة ثم لا تلبث ان تبرز مرة أخرى ؟!! وحتى نحاول الإجابة على هذا السؤال أعلاه فلابد من العودة لمضامين العهود التاريخية بين الملك عبدالعزيزال سعود وأجداده من قبله وأبنائه من بعده من جهة وبين أهل نجران من جهة أخرى والتي من خلالها يتبين انها(اي العهود)قد أصلت بشكل لايقبل اللبس للأسس والمرتكزات التي يجب ان يكون عليها شكل العلاقة ماضيا وحاضرا ومستقبلا بين الدولة السعودية وأهل نجران . من تلك الأسس والمرتكزات التي تضمنتها تلك العهود والمواثيق المشار اليها على سبيل المثال لا الحصر: - اعطاء العهد بأن تبقى نجران وأهلها على"ماهم عليه سابقا"اي من النواحي المذهبية والثقافة والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية حيث لن"نرض فيكم ولا عليكم من اي احد"يريد بكم الغدر بعد ان اعطيناكم الأمان" وانكم(اي اهل نجران) ستكونون"آمنين من جميع الأمور كلها التي تحاذرون منها" اي من الأمور التي يخشى(اهل نجران) من ان يتم التدخل فيها مستقبلا. - اعطاء العهد لأهل نجران بأن يتم ردع" كل جاهل وكف أذاه عن المسلمين" و"التصدي للمفسدين والاجتهاد في تأمين السبيل وحقن الدماء" وان عهد الله وميثاقه على هذا الامر. - اعطاء العهد لأهل نجران ان يكون " الحال منا ومنهم واحد على طاعة الله ورسوله وان لا نصادق لهم عدوا وان من بغى (من البغي) عليهم وطلبوا منا النفعة (اي المساعده) فأننا (الدولة السعودية) لن ندّخرها عنهم فالصديق واحد والعدو واحد ". اذا فلنعد لنطرح السؤال المذكور اعلاه مرة اخرى: بعد مايزيد على ثمانية وسبعين عاما من انضام نجران الطوعي الحر الى كيان المملكة العربية السعودية لماذا مازالت هذه التوترات والتشنجات والشد والجذب مستمرة الى الآن, تخبو لفترة ثم تظهر في فترات اخرى؟! . ولماذا لايوجد(تطبيعا)(حقيقيا)(عفويا)نابعا من الدور المفترض ان تؤديه الدولة,اي دولة في العالم, تجاه مواطنيها كافة دون تمييز عرقي او مذهبي او مناطقي او اي تصنيف أخر؟!! لاشك انه لكي نتلمس طريقنا لمعرفة الإجابة على هكذا اسئلة فأنه يجب ان نتفق أولا على ان هناك ثمة مشكلة بالفعل وان هناك خللا مستمرا في العلاقة بين الدولة او من يمثلها او بمعنى ادق بعض من يمثلها على الأرض (وهذا لايعفي الدولة ككيان عن المسؤولية) ومواطنيها من اهل نجران. فإذا حصل وتم الاتفاق على انه بالفعل يوجد مشكلة حقيقة فإن هذا سيسّهل الوصول الى الحلول الناجعة التي من شأنها ان تزيل هذه التوترات والتشنجات وبالتالي ترتسم علاقة صحيحة خالية من الأسقام والمنغصات بين الدولة ومواطنيها. اما اذا لم يكن هنالك اتفاقا على وجود مشكلة تحتاج الى حل جذري وصادق بعيدا عن الحلول الترقيعية والمسكنات الوقتية وتبادل المجاملات وتعابير الإشادة ومعلقات المديح التي تحدث بين الطرفين (الدولة ومواطنيها اهل نجران) كلما برزت ازمة او حدث توتر او تشنج ما...اقول اذا لم يكن هناك اعترافا بوجود مشكلة فإن مايشتكي منه الجميع (الدولة ومواطنيها اهل نجران) سيبقى مستمرا...كالنار تحت الرماد. أعتقد جازما بأن الطرفين (الدولة وأهل نجران) لديهما نوع من التوافق (المعلن) من قبل أهل نجران و(غير المعلن) من طرف الدولة على أن هناك بالفعل مشكلة ولكن الرهان على الزمن لحلها أحيانا والتردد وممالأة تيار بعينه والبيروقراطية أحيانا أخرى هي التي تعيق عمليا البحث الجدي عن حلول جذرية.وفي رأيي انه لكي نضع اللبنات الأولى لحل المشكلة او التوتر او التشنج او سمها ماشئت فإنه لابد من الإقدام بشجاعة ومسؤولية من قبل الدولة على عمل الأمور التالية وبالطبع بعد نقاشها ومداولتها مع اهل نجران وكل المختصين والمهتمين والحريصين بالفعل على وحدة الصف وأمن الوطن. هذه الأمور يمكن ايرادها على سبيل المثال لا الحصر كالتالي : 1- ان تعترف الدولة اعترافا عمليا ورسميا لايقبل اللبس بمذهب أهل نجران الذي يعتنقونه منذ مئات السنين وهو مذهب اسلامي قديم له الكثير من الإسهامات المشهودة التي اثرت الحياة الإسلامية عبر التاريخ مع ما يترتب على هذا الاعتراف من تبعات ك (تعليمه والسماح بإستيراد كتبه ونشرها وتداولها وبناء المساجد في كافة مناطق المملكة) بكل حرية ودون قيود اومساءلة. 2- ان تزال كل اسباب التوتر والتشنج والتعدي على حرمات الآخرين ومقدساتهم ومذاهبهم والتي تحدث تحت سمع وبصر الدولة ومن اناس احيانا يمثلونها في مواقع مختلفة بحيث توضع قوانين داخلية صارمة تعكس ماوقعّت عليه المملكة من اتفاقيات دولية في الأممالمتحدة ويجرم قانونا من يستخدم الإعلام المرئي او المسموع او المقروء او الإليكتروني او المحاضرة او الأشرطة للنيل او الحط من قدر الآخرين واعتقاداتهم ومايؤمنون به. 3- ان تتم قوننة مذهب الدولة الرسمي الحالي ويطعّم بآراء فقهية مختلفة من المذاهب الإسلامية الأخرى ويوضع في مواد قانونية مكتوبة,واضحة,معروفة ويوزع على المواطنين والوزارات والمصالح الحكومية في كافة انحاء المملكة حتى يعرف المواطن انه لن يحكم بالأهواء ولا بالأمزجة الشخصية ثم تتاح بعد ذلك الفرص بشكل متكافيء لجميع المواطنين دون استثناء لشغل كافة الوظائف وبخاصة وظائف القضاء المختلفة متى ماحصلوا على المؤهلات التعليمية المطلوبة والمناسبة لشغل الوظيفة ولايجب ان يشترط الانتماء لمذهب بعينه ليتم الحصول على مثل هذه الوظائف. ولنا في تجارب الدول الإسلامية في العصور الماضية والحالية خير مثال. ولينظر لهذا الامر على انه شبيه بما يفعله المسلم عندما يذهب لدراسة القانون الفرنسي او الأمريكي او الغربي بشكل عام (مع احتفاظه بمعتقده الأصلي) ويعود الى بلده الإسلامي ويتبوأ مناصب مختلفة بما فيها مناصب قضائية وغيرها.ولننظر ايضا مثلا الى مفتي الأزهر الشيخ احمد الطيب الذي تعلّم وحاضر في فرنسا ودرس قوانينها وأجاد لغتها ثم صار مفتيا لأكبر صرح اسلامي في العالم وهو الأزهر الشريف, ولم يقدح في ذلك أحد او يقل ان ذلك ليس من الإسلام في شيء. 4- ان يتم التخلي مطلقا عن النظرية التي تبناها بعض أبناء جلدتنا ومازالوا منذ انضمام نجران الى كيان المملكة والتي اثبتت فشلها بامتياز وبما لايدع مجالا للشك وبخاصة في الحالة النجرانية.هذه النظرية التي مفادها : أن تغيير الطبيعة الديموغرافية لسكان نجران وتكثيف التعليم الديني للمذهب الرسمي"السائد"من شأنهما مع الزمن ان تحّول أهل نجران الى مذهب"أهل السنة والجماعة"وبالتالي يصبح هنالك مذهبا واحدا فقط انصهرت فيه كافة المذاهب"المخالفة للتوحيد".لقد اصطدمت هذه النظرية بصخرة الواقع وفشلت فشلا ذريعا وتحديدا في نجران لأن الأمر ببساطة شديده من وجه النظر النجرانية هو ان:"فاقد الشيء لايعطيه". ونختم هذا المقال بهذه المقولة التي اطلقها يوما صدام حسين في اجتماع حاسم لقيادات حزب البعث العراقي في السبعينات الميلادية عندما قال لهم:"ان البعثي العراقي سيبقى بعثيا الى الأبد حتى ولو عاش في تل أبيب لعشرين عاما". وهذا ينطبق- مع الفارق طبعا - على الطالب او الشاب النجراني الذي كان البعض ومازال يعتقد انه يمكن ان يزحزح من قناعاته الدينية مع الزمن الى قناعات اخرى مطابقة للسائد ولكن من خلال الواقع العملي اصبح هذا الأمر حلما من الأحلام يماثل حلم ابليس في دخول الجنه. ان من مفارقات الكوميديا السوداء العجيبة ان الطالب النجراني يقضي من عمره اكثر من اثني عشر عاما على الأقل في دراسة مواد اسلامية لمذهب آخر لايعتنقه ولايؤمن به لأن ذلك هو خياره الوحيد اذا ماأراد مستقبلا وظيفيا مضمونا. اذا هي لعبة القط والفأر كما يعلم الجميع. فإلى متى والكل يمارسون عملية دفن رؤوسهم في الرمل معتقدين بعدم وجود مشكله او ربما أنهم يعلمون بها ولكنهم لايعرفون كيف السبيل لحلها؟!! ان الخشية او التوجس من ان الشرعية التي قامت عليها الدولة ستتآكل اوستهتز(هذه فزّاعة يرفعها دعاة التشدّد والتطرف والفرقة)اذا ماتم الاعتراف بالمذاهب الأخرى بشكل رسمي وطبيعي هي خشية او توجس في غير محله اطلاقا بل هي في الواقع خشية متوهمه نتجت عن عدم فهم الآخر ذي المذهب المختلف حتى بالرغم من وجود الكثير من الطنطنة حول مقولة(وطننا واحد وربنا واحد).ان عدم الاعتراف الرسمي بالمذاهب الأخرى والتي بعضها كما هو معلوم اقدم وأكثر اثرا في الحياة الإسلامية عبر التاريخ يعني استمرار التوترات والتشنجات والقلاقل في وجه الدولة التي نتوق جميعا الى ان تكون دولة قوية,صحيحة,معافاه,دولة لجميع مواطنيها قولا وفعلا,محصنة ضد المخاطر بكل أشكالها. ان التجاهل المستمر لمطالب واحتياجات المواطنين الإنسانية والحقوقية والشرعية يعني ايضا تراكم الإحباطات وفقدان الثقة المتبادل والمستمر بين الدولة ومواطنيها ممن يعتنقون مذاهب أخرى تختلف عن مذهبها... بل بينها وبين مذهبها"الرسمي" لأن معتنقيه عندما يشعرون بالتفرد والتميّز واعتقادهم بأنهم أهل الحق وحدهم دون غيرهم ويحصلون بعصا الدولة وتحت مظلتها على مايريدون وليس وفقا لقوة فكرهم ولا قوة اقناعهم اوحجتهم...اقول عندما يشعرون بهذا التفرد فإن ذلك الشعور سيطلق لهم العنان بالإصرار على فعل الباطل ومحاولة فرض مذهبهم(كما يحصل دوما) بشتى الوسائل الممكنه وغير الممكنه بما فيها استخدام القوة والاستغلال السيئ للمناصب التي يتولونها مما سيؤدي الى استمرار القلاقل والعودة الى نفس الحلقة المفرغة وبالتالي العودة الى المسكنات والحلول الترقيعية التي لن يضمن أحد في كل مرّه ألا تنكسر الجره!!!! كاتب صحيفة نجران نيوز الالكترونية