في غمرة الأحداث في القاهرة وقبل تنحي مبارك، قابلت إحدى شخصيات مصر والتي تدعي كل شيء وأي شيء من البطولات الوهمية، فقلت له ساخرا: تعال معنا إلى ميدان التحرير حتى لا تحاسبك الجماهير فيما بعد كما حاسبت السادات على وجوده في السينما يوم الثورة عام 1952. وأخذ الرجل الموضوع بشكل جدي وبدا على وجهه ارتباك وكأن اللحظة تتسرب من بين يديه كما يتسرب الرمل، لكنه قال «معلهش أنا مشغول شويه، بس بيقولوا الميدان خطر، ثم إنني موجود مع الناس على الفيسبوك». استعاض البطل الوهمي العالم الحقيقي في ميدان التحرير بالعالم الافتراضي في ال«فيسبوك». أبطال العالم الافتراضي ظنوا أن المشهد في الشبكة العنكبوتية، البعض منهم كانوا يزورون الميدان كما يزورون صفحات الشبكة؛ دقائق ويهربون، ومعظم الذين قبض عليهم من جماعة ال«فيسبوك» لم يتم القبض عليهم في مظاهرة أو في ميدان التحرير، بل قبض عليهم بعد خروجهم من مطاعم الزمالك والمهندسين. استشهدوا في العالم الافتراضي بينما كان الموت حقيقيا في ميدان التحرير وفي السويسوالإسكندرية، كان موتا حقيقيا لأناس حقيقيين، واحد منهم كان وحيد والده بعد وفاة أمه، فترك الأب وحيدا يتخبط في التحرير، رجل لا يعلم شيئا عن ال«فيسبوك» ولكنه كان يعلم عن «فيس» ابنه و«فيس» وطن أي وجه ابنه ووجوه أبناء الجيران الذين قتلوا في حي الأربعين أو السبتية أو في الإسكندرية. ليست غايتي هنا أن ألغي دور شباب ال«فيسبوك» فيما جرى، ولكن الثورة الحقيقية كانت في العالم الحقيقي لا العالم الافتراضي، أكبر المظاهرات كانت بعد صلاة الجمعة، خرج الناس من الجوامع نتيجة التواصل الاجتماعي الحقيقي وليس التواصل الافتراضي على ال«فيسبوك».
المغرمون بالتكنولوجيا يريدون أن يطلقوا على ثورة مصر ثورة ال«فيسبوك»، يريدون أن ينسبوا الثورة لجماعة ال«فيسبوك» الجالسين في بيوتهم أمام شاشات الكومبيوتر، يريدون أن ينسبوا الثورة لوائل غنيم الذي باعترافه قبض عليه وهو خارج من العشاء في مطعم في المهندسين..
وخرج وائل غنيم وأخذ وقته الطويل على برنامج منى الشاذلي، فبكى وأبكى بينما الشباب يبيتون في ميدان التحرير ليلتها، شباب من أمثال أحمد ماهر محرك حركة 6 أبريل وشادي الغزالي حرب وأسماء محفوظ، وجيجي إبراهيم وكلهم تشرفت بلقائهم في الميدان، وليس على ال«فيسبوك» أو على الفضائيات. كذلك هناك المئات ممن تم اعتقالهم ولم يخرجوا بصفقات كما كان حال وائل غنيم وآخرين ممن التقوا أحمد شفيق رئيس حكومة تسيير الأعمال الذي عينه مبارك قبل رحيله.
هناك من صمدوا من الشباب رغم التعذيب والتهديد وما زالوا قابعين في السجون، هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون لثورة 25 يناير في مصر. رأيت واحدا منهم في مقر «الإخوان» في ميدان التحرير، تم القبض عليه مع مجموعة أخرى أكثر من ثلاثين فردا، كانوا معتقلين حسب قوله بواسطة المخابرات العامة والعسكرية، كان الشاب حسب ما قال لي في حضور المستشار الخضيري، من شباب 6 أبريل في كفر الشيخ، وهو من شباب «الإخوان» ولكن بلا لحية «ولا غيره».. شاب «كوول مودرن»، حدثنا عما جرى له وقال إنه ليس لديه شك أن من حققوا معه هم مخابرات حربية وليسوا أمن دولة.. حكى عن التعذيب، وحكى عمن بقي هناك. بعدها جاءت فتاة محجبة أعطتني ورقة مكتوبا عليها اسم خطيبها وهو كاتب مسرحي، وقالت لي من فضلك إذا تحدثت إلى أي قناة تلفزيونية اذكر اسم خطيبي فهو معتقل منذ بداية الثورة ولا نعلم عنه شيئا. لم أستطع أن أساعدها بشيء ولكن سألت الشاب الإخواني فأكد لي أنه سمع باسمه في المعتقل لكنه لم يره، فنقلنا لها الخبر.
التعذيب والموت والاعتقالات حدثت في عالم الواقع وليس على ال«فيسبوك». فهل لنا أن نتحدث عن الذين ضحوا بحياتهم بدلا من الحديث عن نجوم ال«فيسبوك» والفضائيات، نتحدث عمن اقتلعت حجارة البلطجية عيونهم ونتحدث عمن قتلوا غدرا.. ولنترك وائل غنيم شوية، أم أننا مغرمون بأبطال نصنعها في العالم الافتراضي بدلا من النظر إلى العالم الحقيقي؟