صباح الجمعة المقبلة ترتدي الكعبة المشرفة كسوتها الجديدة التي سلمها الرئيس العام لشؤون الحرمين الشرفين الدكتور عبدالرحمن السديس مساء أمس الأول، إلى نائب كبير سدنة بيت الله الحرام الدكتور صالح الشيبي، ونجل كبير السدنة عبدالله عبدالقادر الشيبي بسبب الوضع الصحي الذي يعانيه كبير السدنة الشيخ عبدالقادر الشيبي. وفي صباح الجمعة المقبلة الموافقة ليوم عرفة، سيقوم سدنة بيت الله الحرام ورجال مصنع كسوة الكعبة المشرفة، بإلباس الكعبة ثوبها الجديد، بينما يكون المسجد الحرام خاليا من مظاهر الازدحام إلا من النزر اليسير من المكيين والمكيات، لاجتماع حجاج بيت الله الحرام في صعيد عرفات. ولكسوة الكعبة المشرفة تاريخ طويل بدأ في الجاهلية واستمر في العصور اللاحقة، مروراً بالكسوة التي كانت تأتي من مصر، والصرة العثمانية، وصولا الى العهد السعودي. وفقا لصحيفة مكة استخدم العثمانيون تعبير "المحمل النبوي" أو "الصرة السلطانية"، حيث كان السلطان يقوم في كل موسم من مواسم الحج بإرسال الهدايا والذخائر الكثيرة إلى مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة. وكان موكب المحمل النبوي مع قافلة الحجاج العثمانيين، ينطلق نحو الحرمين الشريفين كل عام في اليوم الثاني عشر من رجب. ثم يمكث المحمل والحجاج في دمشق طوال رمضان المبارك، ومنها يتجه إلى مكةالمكرمة، وهنا يتم توزيع الهدايا والتبرعات والذخائر على الأهالي. وبعد إتمام فريضة الحج يقوم المحمل مع الحجاج بتهيئة أنفسهم للعودة إلى إسطنبول. وأول محمل نبوي إلى مكة، تم إرساله في عهد السلطان محمد شلبي مع صرة سلطانية تحتوي على 14,000 قطعة ذهبية. ثم ازداد هذا الكّم شيئا فشيئا، وأصبح إرسال الصرة السلطانية عادة متبعة في الثقافة العثمانية. وقد قام موكب الصرة السلطانية برحلته الأولى إلى الحرمين الشريفين على متن سفينة بقيادة كمال رئيس. وفي عهد السلطان سليم الأول وبعد انضمام الحجاز بأكمله إلى الدولة العثمانية، تم تنظيم عملية إرسال مواكب الصرة السلطانية إلى الحرم الشريف. وذكر في كتاب "مرآة الحرمين" أن السلطان بايزيد عندما كان يرسل المحمل النبوي إلى الحرمين الشريفين، كان يكتب على قرطاس أسماء أصحاب الصدقات من الفقراء والعلماء والمتعبدين في الحرمين لتوزع عليهم بدقة واهتمام بالغين دون أن يظلم أحد. وقامت أوقاف السلطان محمود الثاني والسلطان عبدالحميد الثاني بإصدار قرار لمنح الأموال التي يحملها المحمل النبوي لأساتذة مدرسة الحميدية في الحرمين الشريفين وبعض الفقراء الصالحين وخدام الجوامع. وقد أقيمت في إسطنبول احتفالات كبيرة للمحمل قبل سيره إلى الحرمين الشريفين، حيث كان يقوم مسؤول خاص بتنظيم البرنامج، فيسجل أسماء المدعوين، ويحدد مكان وقوفهم، ويبين شكل زيهم وحليهم، ويعرفهم بطريقة تشييع المحمل. كما يذكر في كتاب "تفرشات قديمة" لأسعد أفندي وبتفاصيل دقيقة، كمية النقود والحلي والذخائر والهدايا التي قام المحمل النبوي بحملها إلى الحرمين الشريفين. تبدأ الاحتفالات قبل تحرك المحمل بعدة أيام، فيجتمع ما يقارب ال 60 رجلا يتجولون في أزقة وشوارع إسطنبول يجمعون التبرعات لتضاف إلى هدايا المحمل النبوي. ونتيجة ذلك يفرح كل من لم يكن بوسعه الذهاب إلى الحج، ويخفف من شوقة إلى أراضي الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، موقنا أن صدقتة ستصل إلى الأراضي المباركة وينال أجرا مضاعفا من الله تعالى. ثم يودعون المحمل النبوي ويرسلون معه السلام إلى أهالي الحرمين الشريفين. ينطلق المحمل من قصر "طوب قابي"، فيقوم السلطان بمرافقتة حتى باب القصر الرئيس مع رجال الدولة وسط مراسم هائلة. وخلال الاحتفالات تفرش الموائد للناس أجمعين فيأكل الجميع، ثم يذهب الموظفون إلى الخيم المنصوبة مقابل المكان المعروف ب "قبة ألتي"، أي (تحت القبة) ينتظرون قدوم السلطان. وعندما يحضر تقدم إليه الصرة السلطانية لكي تعدّ، ثم تختم بالختم السلطاني وتسلّم إلى أمين الصرة مع السجلات ورسالة السلطان إلى شريف مكة. بعد ذلك يتلى القرآن الكريم وتنشد القصائد الدينية والمدائح النبوية وتفتح الأيدي إلى السماء وترتفع الأصوات بالدعوات، ويتم اصطحاب القافلة والودائع المباركة المحملة على "جمل الصرة" حتى مخرج قصر "طوب قابي"، وهكذا يكون الاحتفال قد انتهى. إن الهدايا والأموال التي ترسل مع المحمل النبوي تنفق على حوائج مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة؛ كتعمير الحرمين الشريفين وترميمهما، وتأمين راحة الحجاج القادمين من مختلف أرجاء العالم. كما توزع معظم الصدقات والتبرعات على فقراء المنطقة، وتقدم الهدايا إلى أمير مكة وأشرافها. فقد كان المحمل يحط ّ رحاله في ستين موقعا تقريبا خلال رحلته إلى الحرمين الشريفين. ومن ثم يقوم بتأمين حوائج الخانات التي يستريح فيها الحجاج خلال سفرهم إلى بيت الله الحرام، ويقدم المبالغ اللازمة لإصلاح الخانات. واستمر إرسال المحمل النبوي والصرة السلطانية مع قوافل الحج حتى 1915 ولقد قامت الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى في 1916، رغم ما كانت تعانيه من مصاعب ومصائب بإرسال هدايا وصرة سلطانية إلى المدينةالمنورة عبر سكة حديد الحجاز، إلا أنها لم تستطع توصيلها إلى الأراضي المباركة بسبب اشتداد وطيس الحرب، فتوقفت في مدينة دمشق. وبعد 1919 تعذر إرسال الصرة السلطانية إلى الحرمين الشريفين. وفي الأعوام اللاحقة قام عبدالمجيد أفندي بإلغاء إرسال الهدايا والصدقات إلى الحرمين الشريفين قانونيا (1923- 1924)، وكان عبدالمجيد أفندي آخر خلفاء آل عثمان. ونتيجة المخاطر الكبيرة التي جاءت مع الحرب العالمية الأولى بادر محافظ المدينةالمنورة فخر الدين باشا إلى نقل كل الهدايا والأمانات المباركة التي أتت مع المحمل النبوي عبر التاريخ، إلى إسطنبول لتوضع في قصر طوب قابي في جناح الأمانات المقدسة. وما زالت هذه الآثار الثمينة في قصر طوب قابي حتى يومنا هذا في هذا الجناح. كان قرع الطبول وصوت الموسيقى في ال27 من شوال كل عام، بمثابة شارة البدء لسفر المحمل الناقل لكسوة الكعبة من مصر إلى مكةالمكرمة، بدءا من المعسكر "بركة الحج" حيث كان يجتمع الحجاج المصريون مع أقرانهم من بلدان شمال أفريقيا وتركيا. وما إن تظهر خيوط الفجر، حتى يسافر المحمل إلى عجرود غرب السويس، ومنها إلى قلعة النخل وسط سيناء ثم العقبة، ثم يتجه جنوبا ويسير بمحاذاة البحر حتى ينبع، وأخيرا إلى مكةالمكرمة. وكان المحمل يطوف أرجاء القاهرة نحو ثلاثة أيام، في موكب يضم جملا يحمل الكسوة تسير خلفه قافلة جمال تحمل المياه وأمتعة الحجاج ومن ورائهم الجند الذين يحرسون الموكب حتى الحجاز وسط دق الطبول ورفع الرايات. في 1233م أنشئت في مصر وتحديدا في حي باب الشعرية، دار الخرنفش لصناعة الكسوة على نفقة الدولة، إلا أنها توقفت في 1961. يرجع اهتمام السعودية بصناعة الكسوة إلى ما قبل 1381ه أي منذ 1345ه، والذي شهد توقف وصولها من مصر. وفي غرة ذي الحجة من السنة المذكورة، أمر الملك عبدالعزيز بعمل كسوة للكعبة المشرفة، بغاية السرعة. وعملت كسوة من الجوخ الأسود الفاخر مبطنة بالقلع القوي، ولم يأت اليوم الموعود لكسوة الكعبة المشرفة، وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة من 1345ه، إلا والكعبة قد ألبست تلك الكسوة التي عملت في بضعة أيام. وفي مستهل محرم 1346ه، أصدر الملك عبدالعزيز، أوامره بإنشاء دار خاصة بصناعة الكسوة، فأنشئت تلك الدار بمحلة أجياد أمام دار وزارة المالية العمومية بمكةالمكرمة واستغرقت عمارتها نحو 6 أشهر فكانت هذه الدار أول مؤسسة خصصت لحياكة كسوة الكعبة المشرفة بالحجاز منذ كسيت الكعبة في العصر الجاهلي إلى العصر الحالي. وبذلت الحكومة السعودية جهودا كبيرة في سبيل توفير المواد المستخدمة في نسج الكسوة الوقت المناسب، وبني مصنع جديد من طابق واحد في ستة أشهر/ وفي أول رجب من 1346ه، وصل من الهند إلى مكةالمكرمة 12 نولا يدويا، وأصناف الحرير المطلوبة ومواد الصباغة اللازمة بذلك والعمال والفنيون اللازمون وكان عددهم 60 عاملا، 40 منهم من الحرفيين الذين يجيدون فن التطريز على الأقمشة، و20 من العمال المساعدين. وعند حضورهم إلى مكةالمكرمة، نصبت الأنوال ووزعت الأعمال وسار العمل على قدم وساق في صنع الكسوة وتطريزها، حتى تمكنوا من إنجازها في نهاية ذي القعدة 1346ه.