يعج الفضاء بعدد كبير من القنوات الفضائية حتى يكاد يضيق منها ويختنق، فمنح التصاريح مستمر، والعدد يتزايد، والرقابة تكاد تكون معدومة، وقد سعدنا مؤخرا عند إغلاق قنوات السحر والشعوذة، واستشعرنا أنها خطوة أولى في محاولة لتعقيم الجو وتنظيف أرجاءه من الطفيليات التي تتسابق على ابتكار ما يلوث ويدمر عقل ووجدان المشاهد، وتمثل خطرا يشابه في تأثيره تلك القنوات أو هو أشد وأمر. فالصفة التجارية والربحية هي السمة الأغلب والأوضح على هذه القنوات ، ولا يخفى على المشاهد الغرض منها والقيمة التي تحملها، ففي ظل تزايد هذه القنوات، وتزاحمها، ومحاولتها حجز مكان متصدر في أولويات المشاهدة لدى المتلقي، باتت تتسابق بلا هدف، وبشكل غير منضبط في جذب عين المشاهد، والبقاء ضمن خياراته المفضلة في المشاهدة والمتابعة، ولم تعدم أي وسيلة في محاولة استجداء المشاهدين، حتى لو تطلب الأمر مخاطبة غرائزهم بدلا من عقولهم، ولا يخفى أيضا أن تكرار المناظر والصور التي تخاطب الغرائز وعرضها المستمر، وبصور شتى، وبأوقات مختلفة، وفي قنوات عدة، يجعلها مألوفة ومستساغة، وتمتزج في وجدان المشاهد حتى يراها أمراً عادياً، وهذا الأسلوب من الوسائل التي ينتهجها صناع الدعاية والإعلان في جذب المستهلكين. والمداومة على مشاهدة هذه القنوات، والتلفاز بشكل عام، يولد لدى المرء آثارا نفسية سيئة، وتغيرات في السلوك والعادات والقيم، وكذلك مشكلات جسدية لا تتضح نتائجها في المدى القريب، وتفرز أيضا لديه عادة خطيرة وهي عادة التلقي والاستقبال دون إعمال العقل أو إبداء الرأي فيما يشاهد ويتلقى. ولو أخضعنا جميع القنوات الفضائية لعملية تصفية وتنقية لمحتواها، لخرجنا في النهاية بعدد ضئيل جدا من القنوات التي قد تفيد المتلقي في حياته الدينية والدنيوية، حتى القنوات الإخبارية، وما تعرضه من مشاهد الحروب والدمار والقتل، تشكل خطرا على وجدان المشاهد وخاصة الأطفال. فليس هناك وسيلة لصد هذا الهجوم الفضائي الجامح وهذا السيل الإعلامي العارم الذي اقتحم البيوت عنوة وبلا استئذان وأصبح وسيلة من وسائل التربية والتوجيه كالبيت والمدرسة بل الوسيلة الأشد والأخطر والأسرع تأثيرا ، فليس هناك وسلة لصده في ظل تخاذل المعنيين عن تنظيم هذا الفضاء وما يحويه إلا بتقديم البديل المفيد الذي يخاطب العقل لا الجسد ، ويقدم ما يسمو بالروح من قيم ومفاهيم ومضامين لا ما يهبط بالذائقة ويخدش الحياء ويعطل العقل والتفكير. عيد جريس