بدأت التحقيقات ، الكل يُستدعى ، لا تهملوا أحد ، هكذا كانت الأوامر ، نعقت الغربان فى القرية الواسعة ، الكل صامت ، يتحادثون همسا أو غمزا ، لغة العيون يأتى دورها هنا تسير بهوادة من بين شفاه الصامتين ، حملات المداهمة والتفتيش ومراقبة الأوجه الصلبة بحثا عن إجابة ، يذهب محقق ويأتى آخر ، الكل يشبه الاخر ، ملامحهم واحدة ونظرتهم حادة مخيفة ولكن أيا كانت ملامحهم وأيا كانت نظرتهم ، لن ترهب الصامتين ،تم رفع البصمات ،وحمل الجثة إلى العربة ، وتبعها الجميع بنظرات وداع مؤقت ، على باب القسم وقفوا فى الصف ومنهم من جلس على الارض مفترشا جلبابه ، عويس ما زال هناك يعس على الحقيقة ، يسير بين الدور يتسمع همس الرجل وامرأته ، أو الاخ وأخيه ، ولكنهم يعرفونه ، يأتى تحت شباك الصقر ، عم بيومى ، لقبوه بالصقر لقوة نظره فهو يمكنه أن يصطاد فريسته من بعد ، يرى عويس من خلف الشيش ، ينهره فيتنحنح ويلقى السلام ، عم بيومى هو المقصود فمن غيره سوف يفعلها ،هوية القاتل معروفة ، والقتل خطأ ، والعزاء لم يتم . تم التصريح بالدفن ، ثلاثة أطفال يودعون اباهم ملفوفا فى أمتار من القماش الأبيض ، وعصبة عند الرأس ، يحمله أربعة ، يتساءلون ، لماذا اربعة وتجيب الأم لأن للخشبة اربعة ارجل فقط ، يريد الكبير أن يذهب وراءه حتى يكمل اللعب معه ، تتشبث به الأم أكثر، خوفا أن يفلت منها مهرولا وراءه ، رغبتها هى أيضا تريد أن تهرول ولكن رجلها لا تحملها ، فالليلة كانت طويلة والعويل لم ينتهى الا ببحة صوتها ،هنا سكتت، رحل الرجال سلموه للقبر وعادوا كل الى بيته ، العزاء كان عند القبر ، الضابط يشد على ايدي الرجال متعهدين بعدم القصاص ، والصقر يحدق فى وجوههم ، أن ابناءه صغار لا يستطيعون الأخذ بالثأر ، يضغط الضابط اكثر على يده قائلا: ولا أنت يا عم بيومى ؟ يبادله الضغطة ، ينتش الضابط يده التى شعر بانكسارها بين أصابعه ، يحمل رجاله ويرحل . عاد الرجال فانتفضت النسوة من حلقة العزاء خوفا ورهبة من نظرات عيونهم التى تحمل الشرر من قلب أمين الطوب المحروق والذى مازال ينفث دخانه ،أما هى قد حملت سواد جلبابها وعصبة رأسها وصوتها المبحوح ، ورأس يترجرج بذكرياتها منذ شبت ، امرأة تُنكح ، وحتى صارت أرملة تتشح بالسواد فى سنوات هى الأكثر فقرا والأحوج لضل رجل . رجل صار بين اربعة جدران لا تنطق ، وتركها بين رجال تتحفز للموت لتلحق به ، ولا مجال لها لترتقى عالمهم الذكورى مرة أخرى ، ألا يكفيها ثلاثة أطفال ذكور هم رجالها القادمون زوجا وابنا وأخا وكفىتقوقعت بداخلهم ، ولملمتهم بداخلها ، وتركت ساحة الثأر للرجال ، وللصقر العم بيومى . العم بيومى المحاصر فى أزقة القرية ، عقله لا يتوقف يهرول فى كل مكان يختبئ فيه ، وهناك بين خيوط الليل السوداء هاربا يخشى أن ينبلج خطا ابيضا بينها ، يرديه بين أيدى المتربصين به ، العم بيومى هو نقطة الارتكاز لو سقطت أو انكسرت ، تفسخت الدائرة وهوت عمدانها ، ولكنها لا تابه لذلك فعمود بيتها قد هوى وسقط الركن الكبير وترك الاركان الصغيرة تلهث وراء الخوف من المجهول ، لم تهتم كثيرا لما يدور ليس لها هناك ناقة ولا جمل هى عائلته التى تلوث ثوبها الابيض وانكسر كبرياؤها ، أما عائلتها فهم فقط هؤلاء الصغار ، والصقر سوف تعايره العائلات ، كل" يبحث عن غطاء يدارى به عُريه ، وأنا أبحث عمن يدارى لحمى ،لقد اصبح الجسد الذى يغطينى سمادا للارض ، وأصبح جسدى بلا غطاء ، من اليوم سوف تكثر المحرمات علىّ ، واللباس الاسود هو سترى الوحيد للخروج حتى وإن إنقضت العدة ، والكحل الذى ما زالت آثاره فى عيونى سوف يتحول إلى عَمَش ، أما السوق فهو مثل كف النار التى تلهب ظهرى من غمزات النسوة وهمسهم خوفا على رجالهم من فتنتى . الليل طويل لا ينتهى ، والنهار أراه من خلف فتحات الشبابيك التى لا أجرؤ على النظر منها وهى مفتوحة كلها ، أهلك نفسى فى أعمال البيت وخدمة الأولاد ، ولكن النوم لا يأتى رغم التعب ، الصبر ، الصبر حتى يتعود اهل القرية على انكسارك ساعتها سوف يفتحون لك بيوتهم ولا يخشون منك ، نصيحة من الحكيمة التى تقوم بعملية الولادة لسلفتى ،عملت بها ، لا حيلة لى سوى الصبر ، وتسّمع اخبار الصقر ، ليالى الصبر فيها ينفذ ، وليالى يغوصون فى برد الشتاء والوحل ويعودون خالين الوفاض ،أقرأ عدية ياسين حتى تساعدهم فى نيل مرادهم ،وننتهى من هذا الانتظار . السكون يلف القرية والريح تصفر وعواء الذئاب فى الغيطان ، وطلقة واحدة تدوى قبل آذان الفجر ، أنتظر الليل أن يفرج عن خيوط النور ، ومع أول قطار يمر بالمحطة والركاب . 1