تبلغت ممن لا يمت لوزارة الصحة ولا بمديرية صحة جازان بصلة , بل من صديق صدوق وكان ذلك هاتفيا بلحظة تقديمه استقالته , فجاءتني على بريد الصحيفة بعد ذلك بثلاث ساعات كمٌ من الأخبار المنسوخة والمصدر لديهم موثوق كما يقولون ! أُعفيَ , فلم آبه بها ولم أنشرها , فلم أعدُّ ذلك سبقا صحفيا , مع علمي الأكيد أن لهكذا خبر قراءٌ عديدون , وتعليقات بين معجب , ومرحب , وممهور بالتشفي وشامت علم عن ذاك الشخص , خَبِرَ عنه أم لا يعلم شيئا سوى مع " الخيل ياشقراء " لازمة امتطاها المتماهون دون أدنى اعتبار, ودون نزر من إنصاف , فكان التريث إلى أن جاء الخبر اليقين الذي بيَّن أن ما قالوا عنه أعفي " الأكشم " خبرٌ غير مهني ولا إنساني بالطبع , كذبة صدَّقوها بأن كل مسؤول ينتقل من مكان لآخر كأنه سحب بناصيته إلى جهنم , وبأن أوضاعا بها قصورأو عور سيتم حلها برشقة قلم , أوبقدوم آخر مكلف لم يعيّن نفسه , بل من واجبه أن ينفذ ليس لمصلحته بالطبع , فلا قرب المكان مُغرٍ له , ولا المهمة سهلة بالتأكيد , بل يؤمل منه ليبذل جهدا قدر استطاعته فكان التكليف للصالح العام كما اعتدنا هذا الإبهام . كنت في الخامسة عشرة من عمري وكان حسن خالد الأمير مع - حفظ الألقاب هنا وتاليا - , مديرا لصحة جازان قدَّم وعمل قدر استطاعته , كان إداريا لامعا في زمانه , وذا كاريزما دون شك , كانت له هيبة وشأن على شخوص كانوا يقدسون الوقت , ويحرصون على أداء عملهم ذوي خبرة , من أطباء , وممرضين وممرضات ؛من جنسيات عربية وأجنبية وما يعد على أصابع اليد من أبناء الوطن , وكان له محاسنه ومآخذه , فشؤون الصحة مهما كانت كفاءة من يتولاها وقدراته لا يستطيع أن ينجو من النقد اللاذع الذي هو بالغالب اقل بكثير من الثناء. جاء بعده على ما أذكر عبدالرحيم عقيل , كان طبيبا , تخرج في جامعة الاسكندرية بمصر, له كاريزما وحضور لافت اجتهد , وقوة شخصية , بذل جهده , من عائلة ثرية علما وجاها ومالا ؛ وظفها جميعها فأحدث نقلة نوعية بصحة جازان , واكبت قدرات مالية جراء ارتفاع صادرات النفط وارتفاع أ سعاره , فتم بناء المستشفيات الخمسة باسم الملك فهد , ومنها مستشفى الملك فهد بجازان , الذي كان يزخر بأطباء تم سحبهم بالتدريج لمناطق أخرى أو انهاء عقودهم , لتحل شركات اصابت الصحة في مقتل , أوكل لها أن تتعاقد مع اطباء وكادر تمريضي , وتؤمن الدواء , نزولا لصيانة ونظافة المستشفيات , مع هامش للصحة بإرسال لجان تعاقد أو بإجراء اختبارات سريعة وفحوص لمن استقدم للقطاع الخاص . واكبت تلك الأوضاع طفرة بكل شيء لا بالصحة فقط ولا بمنطقة دون أخرى , فكان لها إيجابياتها لدى بعض ممن انتفخت جيوبهم , فنالها من نالها بعهده ايجابيات أيضا شكلت نقلة نوعية , مع ما قيل فيه يرحمه الله ما لم يقله مالك في الخمر , ومُدِح قبلها أكثر مما قُرّع به , ومع قرارات غازي القصيبي يرحمه الله التي استهلها بتغييرات جذرية شملت غالبية مديري مديريات صحة مناطق المملكة , من خلال جولاته الميدانية غير المعلنة , ولتعيينه وزيرا للصحة قصة , سأوردها باختصار؛ كان من ضمن الوفد المرافق للملك فهد يرحمه الله , كان وليا للعهد وعلى نفس طائرته عام 1395ه بطريقهم لمؤتمر قمة أوبك بالجزائر ؛ لمَّح له كما جاء بكتابه حياة في الإدارة : " أن كل الوزارات أمكن تشخيصها وعلاجها إلا وزارة الصحة لا زالت عليلة " , أو كما قال لا أتذكره حرفيا , وبعد ذلك بعام ونصف كلفه بوزارة الصحة وكان حينها وزيرا للصناعة والكهرباء. زار القصيبي يرحمه الله جازان , فقيل : "حان وقت إعفاء مدير صحة جازان فلن يكون أكثر حظا من نزيه نصيف مدير صحة جدة , ولا فلان وعلان " , استقبله عبدالرحيم عقيل يرحمه الله , ومن المطار لمستشفى الملك فهد وهو يسرد له كل عيوب ونواقص الخدمات الصحية بالمنطقة والمستشفى بصفة خاصة , فما اكتنز ولا أبقى تقصا أو قصورا إلا وحدثه به , فوجد فيه المصداقيه وعدم اكتراثه بقي أم أُقيل , وبقي عبدالرحيم بمكانه إلى حين , وغادر القصيبي بعد أن استنفذ طاقته , وبعد أن وجد أن ما لديه قدمه مالم يقدمه من أتى بعده ومعه مبضع جراح , فذهب الوزير وبقي القصيبي الاداري المحنك والشاعر المنيف والسفير الأمين ,ولاقى عبدالرحيم ربه وما قدمه لا ينكره إلا جاحد , ولا أخاله أن نفى عن نفسه قصورا يوما من الأيام بحياته يرحمه الله . وجاء بعده حسن أيوب , فالقحطاني , ثم محسن طبيقي الذي نال أضعاف ما ناله حمد الأكشم وأخيرا بقي الكرسي وذهب محسن بجم أخلاقه وطيب معشره وتواضعه وقصوره إلى قصره , بعد أن بذل جهده كإداري وهو ليس إلا طبيبا , فشأن الصحة لا ثابت فيها بل تقدم كبش فداء بنهاية المطاف , فالصحة شجون وشؤون , وواقعٌ لا أخال أحدا يتجاسر ولا يقول عنها أنها أهم وزارة خدميَّة على الإطلاق , فلن تجد من يمتدح جميع خدماتها أكثر ممن يسلقها بألسنة حداد , فلو أخطا ممرض أوطبيب أو وجد عجزٌ في دواء أو خطا بقراءة أجهزة أو وجود أجهزة تم تأمينها دون التزام بمواصفات بل بتلاعب ضعاف نفوس أو عدم شغور سرير لمريض صبَّ المواطن جام غضبه على المسؤول الأول بصحة أي منطقة , مع أن أمورا عديدة نتاج تراكمات غالبيتها مصدرها هرمي لا قاعدي . وبالتالي صحة الانسان لا هامش خطأ يُغتَفَر , سواء من رداءة بعض الأجهزة أو خطا تشخيصي من طبيب أو كادر تمريضي " لمريض يرقد بمستشفى , أو من صيدلي بصرف دواء , ومع هذا يمكن تقليص آثار ما ترتب من خطأ ببعض الحالات بإرادة الله قبل كل شيء , أو بتحركٍ سريعٍ لمعالجة خطأ جسيم كما تم مع ابنة جازان رهام حكمي ؛ حيث أقر أطباؤها المشرفون على معالجتها بتخصصي الرياض أن سرعة إعطائها العقار المناسب أسهم في الحد من تأثير ما أصابها من نقل دم ملوث بفيروس نقص المناعة المكتسبة "الإيدز" ؛ بعد هذه الحالة سلطت الاضواء فنشر ما كان لينشر من قصور لا يخل منه مستشفى , وايضا قصورٌ لا مناص من نشره , وكانت صحة جازان بكثير من الحالات هي من تبادر بالإعلان عن كل خطأ أو قصور أو توضيح وكان مسلكها هذا خلافا لبقية المناطق , وما كان عليها أن تكون مبادرة لولا ما سبق بقضية رهام . كان كثيرون ينتظرون إصدار قرار بإعفاء مدير عام صحة جازان وكأنه رئيس التمريض بذلك المستشفى الذي ساهم في الخطأ الجسيم بحالة الطفلة رهام الحكمي ومع أن المتسببن ومن يديرونهم عوقبوا , لكن لم تصمت الأفواه والأقلام ولم تعف الألسن , وتوالت بعدها حالات تتكرر بطول البلاد وعرضها وليس حصريا بجازان , فزاد الصياح , وعُنون بلا مبالاة ليشكل نسيجا أسموه تهاوناً ,ومن تَجاوزَ أسماه فساداً , ممن كانوا غافلين أنه ليس من العدل أن يقيَّم مسؤولٌ على عمل ممن ليسوا خبراءَ بشؤون الصحة , فاستمروا يهرفون بما لا يفقهون , وحين رأى ألا مناص من إزاحة هموم من على كتفه وحسنا فعل , أبدى رغبته فمدة تكليفة انتهت كما ورد بقرار الوزير , وليقل من قال أنها إعفاء فلا ندخل بالنوايا بل بالواقع سواء كان حقا أو ترضية , فالوزير عيَّنهُ مستشارا لنائب الوزير وواجبا عليه أن يقبل . فحمد الأكشم لم يكن الأول الذي يغادر موقعه لموقع آخر ولن يكون الأخير , والثابت أن تظل الصحة باقية على ما بها من علل , ما استمر إفراغ المستشفيات من الكفاءات الطبية الوطنية , والتي تم تأهيلها لمهنة أفنوا جل عمرهم فيها , وتعيينهم مديرين . فمحاسبتهم بتجيير الأخطاء إليهم فيما لا ناقة لهم بها ولاجمل , فالإداري لايمكن أن يقوم بعمل طبيب بل يستحيل ذلك قطعيا , ومن الأولى أن تكون نفس النظرة لدى وزارة الصحة أن الطبيب لا يمكن أن تحاسبه كإداري وهو بالأساس جيء به من عيادته ويمارس مهنته التي يعشقها ويستفيد من كفاءته مواطنون فيما نستعيض عنهم بببعض أطباء ممن اضطرتهم ظروفهم لعدم وجود مجال لهم بدولهم كونهم اقل كفاءة وإمكانيات ؛ ومع يقيني ان اطباء اجانب يمكن استقدامهم كخبراء واستشاريون كبارا كما بمستشفيات وزارة الدفاع والحرس الوطني وغيرهما . وأرى أنه من الحتمي أن تفتتح وزارة الصحة معهدا لإعداد قادة إداريين ينتسب إليها خريجو الجامعات , وفق معايير قبول صارمة ليتم الاستفادة منهم بأعمال إدارية بالوزارة والمناطق , كما وزارة الخارجية , لديها معهد الدراسات الدبلوماسية , وغيرها من الوزاراة , أما طاقة وإمكانيات معهد الادارة العامة فليس بوسعه أن يخصص كل أقسامه لتصبح حصريا لتخصص إدارة مستشفيات , مع أن خريجيه نادرا ما تجدهم بوظائف قيادية بأي مستشفى , ومن اليسير أن يستشيروا بأطباء فيما يتطلب الأمر ذلك سواء مدير مستشفى أو مدير عام شؤون صحية , والإبقاء على أطباء الوطن الذين عانوا واجتهدوا وكابدوا و عشقهم مهنتهم في أماكنهم , لا نقلهم لمشافٍ بالمدن الكبرى , او بوظائف إدارية محضة , أو مديرين عامين لصحة مناطق .