لا تزال مقدونيا تعيش إرهاصات العراك الذي حدث في قاعة برلمانها قبل أسبوع بين الإئتلاف الحاكم بزعامة نيكولا غرويفسكي رئيس الوزراء والمعارضة التي يقودها الإشتراكيون بزعامة برانكو تسرفينكوفسكي رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية الأسبق . وذلك بسبب التصويت على ميزانية العام القادم التي يرفضها المعارضون جملة وتفصيلاً , وكانوا قد تعبوا من جلوسهم ليومين كاملين داخل أروقة البرلمان , وما إن غادروه حتى حضر الإئتلاف الحاكم بنوابه ومرروا التصويت . لكن عودة المعارضين المباغتة لإلغاء التصويت جعلتهم يستعينون بالشرطة وقوات الشغب التي أخرجت الصحافيين بقسوة ووحشية , وأصيب عدد من نواب المعارضة بإصابات متفاوتة , جعلتهم يخرجون مع أنصارهم إلى شوارع المدن والبلدات المقدونية وحتى اللحظة . ربما يقول قائل , إن مقدونيا تأخرت بالمقارنة مع سلوفينيا ( ألعضو في الإتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو ) , لكنني على يقين أنها لم تتأخر , فقبل عشرين سنة كتبت ونشرت أن مقدونيا أضحت تمشي باتجاه مسار آخر , وقبلها بخمسة أعوام كنت أتسائل : مقدونيا ... إلى أين ؟ صادف يوم الأربعاء الماضي , مرور إثنان وعشرين عاماً على الإستفتاء الذي صوّت عليه الشعب السلوفاني مُعلناً رغبته في الإنفصال عن الفيدرالية اليوغوسلافية لتصبح بلاده أول جمهورية تنفصل عن الإتحاد اليوغوسلافي . وقد شارك السلوفان في ذلك الإستفتاء بنسبة خمسة وتسعين بالمئة , صوّت منهم ما نسبته ثمان وثمانون ونصف بالمئة لصالح إعلان سلوفينيا دولة مستقلة . واعتبرت في مقالاتي آنئذٍ أن الإستفتاء ما هو إلا امتداد لما عُرف بوثيقة السبعة والخمسين في إشارة لعدد الموقعين عليها عام 1987 والتي أُطْلِق عليها إسم البرنامج السلوفيني الوطني , وغالبيتهم وقّع لي على عريضة تؤيّد إعلان دولة فلسطينية مستقلة كنت قد قدّمتها إلى منظومة دول عدم الإنحياز . وأبلغوني أن دولتهم الجديدة ستكون أقرب حليف للفلسطينيين لكنها أحجمت عن التصويت لصالح إعلان دولة فلسطين عضواً مراقباً في الأممالمتحدة , كمثيلاتها الأخريات اللواتي انفصلن لاحقاً وزدن بكوسوفا لتصبح الجمهورية اليوغوسلافية السابعة . وظل الوضع على ما هو حتى أقرّ البرلمان السلوفيني الإنفصال في حزيران عام 1991 . وفي تلك الفترة , وبالتزامن , عاشت مقدونيا , هدوءاً وصمتاً مريباً , باستثناء ليوبتشو غيورغييفسكي الذي أسّس الحزب القومي الشوفيني وداوم على طلب الإنفصال عن الإتحاد اليوغوسلافي . وبالعودة إلى سلوفينيا , التي شهدت مشاكل مع جارتيها , إيطاليا والنمسا , فقد طالبت إيطاليا وفور استقلال سلوفينيا بإعادة فتح ملف الحدود لكن السلوفان رفضوا حتى فكرة الموضوع ولما رفضت إيطاليا مبدأ التعويض للإيطاليين الذين هجروا أماكن سكناهم في الحرب العالمية الثانية قامت سلوفينيا بفتح حساب التعويض في بازل السويسرية ودفعت القيمة لتطوي هذه الصفحة . فيما جهدت النمسا لإلغاء المادة السادسة من الميثاق الدولي الخاص حول وضع الأقلية السلوفينية فيها , لكن سلوفينيا أجهضت المحاولة النمساوية . أما مقدونيا , فقد اضطرت لاستبدال علمها ولإلغاء دورها بشأن أقلياتها في الدول المجاورة . ولا تزال ترزخ تحت الضغوط وعلى الأخص من قبل الإتحاد الأوروبي لتتخلى عن إسمها منذ ما يقارب من العقدين من الزمان . تبلغ نسبة دخل الفرد السلوفيني بالمقارنة مع بلدان الإتحاد الأوروبي أربعة وثمانين بالمئة , وهي الأعلى بالنسبة للأعضاء الذين انضموا للإتحاد من البلدان الإشتراكية بل وهي أفضل من البرتغال واليونان . أما في مقدونيا وصربيا فتبلغ خمسة وثلاثين بالمئة وهي أسوأ من ألبانيا والبوسنة والهرسك . تشهد سلوفينيا إضطرابات عنيفة ضد النخب السياسية التي سيّرت السياسة لصالحها فقط . وأما ما شهدته مقدونيا من عراكات واشتباكات فقد دلّ على أن الأمن وأجهزته جزءاً من المعركة لصالح الحزب الحاكم ضد الشعب والمعارضة . ألسلوفان يستعدون لأكبر إنتفاضة في الحادي عشر من الشهر الأول من السنة الجديدة القادم , فيما تتواصل الإحتجاجات الشعبية المقدونية بقيادة الرئيس الأسبق تسرفينكوفسكي ( ألشارع يصطف هذه اللحظات مع الرئيس تسرفينكوفسكي - ألشيوعي السابق والإشتراكي الحالي - وهو الذي كان قد ألقى به في الشارع ) . ألرشوة والفساد والتسلط والإستبداد والقهر والإضطهاد هي سمات المذهبين الرأسمالي والشيوعي . وكشف الحقيقة , بات يؤرق الجميع , بعدما رافقه من حراكات شعبية عربية إندلعت بعد ربع قرن على حراكات مماثلة لبلدان حلف وارسو الذي فكّكته ضربات المجاهدين في أفغانستان وأودت بالإتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا إلى الهاوية . إن اليسار العربي عامة والفلسطيني خاصة وُلد صهيونياً بامتياز . وظل الغباء السياسي يغمره حتى اندثاره وتحوله إلى ليبرالية بلا طعم ولا مذاق , وغادره كل الشرفاء والمخلصون من أبناء هذه الأمة . بعضهم مبكراً , قبل عقود ليست بالقليلة , بعدما رأوا ابتعاده عن الكفاح المسلح والمقاومة المشروعة , حتى أن عدداً من مجموعاتٍ حملت هذا الفكر الدخيل إندثرت منذ ولادتها . ومن اختط نهج المقاومة من أتباع هذا التيار إعترف بتيه بوصلته بعد أن وصل إلى طريق مسدود فعاد إلى قوميته التي لفظها كيساريته العرب في ربيعهم الذي تشهد سوريا دمويته الوحشية , والتي انحاز ممن أصروا على ضلالتهم من هؤلاء للنظام الطائفي حسب وصف زعيمهم الروحي لافروف , فهم كالأنعام يُجَرّون كالإبل . ولا زلنا نجد بقاياهم الرخيصة التي رفضت مبدأ الكفاح المسلح لتحرير فلسطين تشارك النظام المأجور مثلها لموسكو الأرثوذكسية المتصهينة في قصف شعبه وإبادة السُّنّة من أبنائه ليرضي الفرس الذين سلّم بلده لهم منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية . سلوفينيا , تصف بشار بالدكتاتور والرئيس الغير شرعي ؛ أما مقدونيا , فيقتصر وصفها للدكتاتورية العربية على القذافي وتلتزم الحياد عما يجري في سوريا وفيما نجد صربيا الأرثوذكسية المتصهينة واليونان بوقاً إعلامياً منسوخاً عن إعلام المجرم السفاح بشار كحليفتهما روسيا تقف دولة كوسوفا بالتضاد لها وتغض الطرف عمن يرغب بالذهاب للقتال إلى جانب الشعب السوري الجريح . وتعمل على زعزعة محاولات موسكو في تشكيل محور جديد سيضم البلدان التي ستخرج من الإتحاد الأوروبي بعد هلاكه المبين القريب ومعها تقف ألبانيا وألبان الجبل الأسود ومقدونيا نفس الموقف باستثناء ثلاثة بالمئة منهم ( مرتزقة وشيعة ) قاتلوا إلى جانب المالكي وكرزاي في السابق وتحولوا حالياً إلى جانب طائفة بشار المؤيدة لها . من البلقان والشرق الأوسط , بدت علامات المحاور التي تسبق الحرب الكونية . وإذن فلا بد للقطبين العربيين ( مصر والسعودية ) من اتخاذ تدابير تقي العرب تداعيات الربيع السوري التي ألقت بظلالها على العراق ولبنان , وأقصد بمد كل أشكال الدعم وأوله السلاح الحديث للشعب السوري كي يحسم انتصاره الحتمي , وعلى جيوشنا ومؤسساتنا العسكرية ودوائرنا الأمنية القادمة أن تبني نفسها نقيّة من الأرجاس والأنذال واليساريين العملاء والمتبجحين بمدنية الدولة التي ما عهد فيها المواطن العربي سوى الوحشية والتبعية والإنصياع والفساد والظلم والإستبداد. 1