تجتاحني هذا المساء ذكريات الطفولة تتراءى أمامي كأطياف الكرى تحمل في ثناياها أنسام تفتح الزهور البكر وهي تعانق طل الصباح الجامح من أعطاف تلك الأجساد الصغيرة . أراني في البعيد هناك خلف تأوهات هذا السديم المنهك عشش قريتي الصغيرة تنتصب شامخة تشق فضاءات الزمن الجميل تلتحف البساطة تجللها من هاماتها إلى جذورها الضاربة في أعماق الأرض. كنا هناك نلهو في سفوحها , كنا نراها أكبر من الجبل كانت عندنا مضرب المثل في العظمة ليس هناك من هو أعظم منها عندنا إلا الذين بنوها , وهم يتوسدون أفيائها متحلقين حول الحكايات والآمال والضحكات التي تنطلق فتملأ المكان رونقا وجمالا . كنا مع إشراقة صباحات قريتي نتسابق إلى معاميلنا نذوب في ترابها وطينها نستنشقه في أنوفنا ليتخللنا إلى النخاع فنتماها مع ما حولنا ونتمايل مع تمايل (رزاوي) الدخن المتعذق تنساب بين يديها أنسام الصباح فتذوب طربا وترقص ونرقص معها على أنغام الطبيعة . الكل هنا كل أهل قريتي في معاميلهم وأسرتي معهم خرجنا جميعاً لنشارك (تلوم) الذرة ورزاوي الدخن رقصات البكور المنمنم بآمال الغد الباسم . جدي هناك "يجرب" وابي يحمل مغراباً وأمي تداعب شجيرات (الدجر) و (الحبحب) لتقطف من بواكيرها الجنى وجدتي هناك وحدها تتخير من عذوق الذرة ما شب قبل الطوق وأصبح خضيراً تفوح منه تباشير موسم وفير , أنا وأخوتي كنا نسابق أحلامنا فوق الكثيب وشياهنا تلهو حولنا , ها هي الشمس تعلو وتعاود الصهيل لتستحث همت محصولنا أحسسنا بغمر حرارتها تنسكب داخل أرواحنا فركضنا إلى ظل أثلة جدتي نتحلق تحت جذعها الذي حكى روعة الصمود والعطاء مستخرجين من زنابيلنا الزواد لنأكل اليسير من خميرنا وريبنا , هنا أقف وغداً لنا صورة أخرى. 1 [email protected]