انتقد الدكتور سلمان العودة جمعاً من أدبيات التيارات الإسلامية، كونها لا تفرق بين الديني والدنيوي، إذ اعتبر أن هناك أعمالاً هي للدنيا فقط وأعمالاً للآخرة فقط، فقال: «إن كثيراً من الأدبيات الإسلامية، ربما على يد الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - ومدرسته، حاولت أن توجد تماهياً وذوباناً ما بين الدنيا والآخرة، وما بين الدين والدنيا، كرد على العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة، لكن هذا أفرز عند بعض القرّاء نوعاً من المبالغة في الدمج حتى أصبحوا لا يتحملون أو يتقبلون أن يدركوا أن ثمة فرقاً بين الديني والدنيوي، وفرقاً بين الدنيا والآخرة، فهناك شيء يعمله الإنسان للدنيا وهناك شيء يعمله الإنسان للآخرة، وهذا لا يضر». وأشاد برؤية الفقهاء حينما قسّموا كتبهم وخصصوا باباً ل «العبادات»، وأوجدوا فيه تفاصيل الأحكام في أدق الأمور، ولذلك تجد أن نصف الكتب، بخاصة كتب الحديث، يتعلق بالعبادات، مع أن العبادات محددة وربما «المعاملات» كلها تقع في النصف الآخر أو في أقل من ذلك مع أنها مفتوحة جداً في ما يتعلق بكل التصرفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفردية والجماعية وغيرها. وأكد في ورقة بحثية بعنوان: «نحو مشروع نهضة» أن النصوص غنية في العبادات ومحدودة في المعاملات، لأن المقصود فتح المجال في ما يتعلق بالدنيوية لما هو مسكوت عنه وهذا هو الأصل، فما هو مباح ومأذون فيه بعضهم يعبر عنه بأنه منطقة فراغ دستوري، ولذلك فإن الفقيه غالباً يتعامل مع النصوص ويكون في الخانة الأولى فهو إلى النصوص أقرب، بينما المفكر ربما يتعامل مع الواقع إضافة إلى النصوص ويحاول أن يوائم بينها. ونوه إلى وجود سياسة نبوية مدنية في ذلك، «فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مات، ودرعه مرهونة عند يهودي، وهذه السياسة هي سياسة ربانية في حقيقة الأمر، لكن هذا لا يعني أن تفاصيلها تحمل طابع العصمة أو القدسية إلا في ما يبلغ عن الله - عز وجل - ويأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الرجل فيرفض الرجل أن يدينه ويقول: «أنتم أهل مماطلة»، ويموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة على طعام اشتراه لأهله أو غير ذلك من المواقف الكثيرة». وتطرق إلى أن معظم الحركات الإسلامية نشأت بعد سقوط الخلافة العثمانية - والتي تسمى خلافة من منطلق أنها جمعت المسلمين - ثم أفاق الناس على تشتت الدول ولم يكن هناك نظام جيد، اذ كان هناك اقتباس لأنظمة رأسمالية أو أنظمة يسارية شيوعية لم تفلح في ضبط هذه الأمور، ولذلك فالناس صاروا حتى في ممارستهم منحازين للسياسة بشكل سافر ومبالَغ فيه. وأضاف: «وإنه في النمط السياسي فإن الصورة الواحدة عند الناس هي صورة الخلافة، بينما نستطيع أن نقول ان التطبيقات الإسلامية للسياسة ليست مقصورة على نمط الخلافة فقط، ولكنّ هناك صوراً ونماذج أخرى». وذكر ان الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل بسياسة نبوية مدنية مع مجتمع المدينة الذي كان مجتمعاً متنوعاً، فيه المسلمون واليهود والوثنيون والنصارى الذين جاؤوا أيضاً إلى المدينة، واستقروا فيها والمنافقون أيضاً كطائفة جديدة وُجدت والنبي - صلى الله عليه وسلم - تعامل معهم من هذا المنطلق، حتى انه يمكن القول ان الحالات التي تصرَّف فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الحياة الدنيا بمقتضى الوحي قد تكون حالات محدودة جدًا أو نادرة، أو أن الوحي جاء وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤاخذ الناس بمقتضى ما يعلم، حتى عندما ينزل جبريل بالوحي بأسماء المنافقين لم يأخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤاخذهم، وإنما كان هذا لمجرد المعرفة والحذر. ولفت إلى أن محدودية فترة الخلافة في النص النبوي موجب لئلا يمتحن الناس أنفسهم أو غيرهم بأن يكون الوضع الوحيد في الفعل السياسي هو نظام الخلافة الراشدة التي انتهت بوفاة آخر الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجاء ما بعدها مُلكًا وإن كان سمي خلافة، وهو ملك بني أمية (ثُمَّ يُؤْتِى اللَّهُ الْمُلْكَ - أَوْ مُلْكَهُ - مَنْ يَشَاءُ)، ثم ملك العباسيين، ثم ملك العثمانيين. وتابع: «إنها ليست فقط - كما يفهم البعض - السيطرة على كل العالم الإسلامي، فهذا ليس هو المتغير الوحيد في الخلافة، ولكن الخلافة فيها الانضباط المالي، إذ كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما يأتيه المال يوزع من بيت المال حتى لا يبقى فيه شيء قط، ثم يفرش السجادة ويصلي فيه ركعتين، إمعانًا في التفوق على هذه الدنيا والتغلب عليها، فالخلافة كان فيها انضباط كبير، وعدالة، وسياسة شرعية ربما لا يقوى الناس على ممارستها. ولذلك حاول بعض الأمويين وبعض العباسيين مثل هذه الأعمال وظنوا أنهم يتأسون بعمر بن الخطاب أو بعمر بن عبدالعزيز فآلت الأمور إلى أن يثور الناس عليهم حتى أحدهم يقال إن الناس قتلوه ثم شربوا دمه، وهو كان يريد أن يسوسهم سياسة لكنه لم يكن حكيماً في مثل هذه الأمور ولا قارئاً جيداً للمتغيرات الواقعية». واعتبر أن كل المشاريع الوحدوية تبخَّرَتْ، بل كانت سبباً وراء تكريس الخلاف، وانتهت نهايةً بائسةً وسيئةً، وكان الناس بعدها شرا منهم قبلها، لماذا؟ لأننا هنا أمام حلم وحدة، قد يكون جميلاً في بادئ الرأي، ولكن هذا الحلم لا يَتَّصِلُ بالواقع، وليس مَبْنِيًّا على جذور عميقة صحيحةٍ. وذكر أن أكثر الإخفاقات العربية تمت تحت «شعار الوحدة العربية»، وقد رأينا كيف غزت دولةٌ دولةً مجاورة، أو ضمتها إليها تحت هذا الشعار، وهذه المشاريع أحياناً عسكرية وسياسية، مثل انضمام سورية إلى مصر في عهد جمال عبدالناصر فيما كان يُسَمَّى بالوحدة. صدام المشاريع وقال العودة وأضاف: «نحن نحلم بمشروع حضاري للأمة، وعلينا أن ندرك أن أولى خطوات المشروع الحضاري هي (الكلمات الحضارية)» واستطرد بقوله قرأت حواراً مع صحافي فرنسي مشهور، يقول فيه: «إن هذا العصر هو عَصْرُ الصدام بين الطوائف داخل المجتمع المسلم، كما أن هناك كتباً كثيرة تُذَكِّرُ بهذا المعنى، وتشير إلى ما يمكن أن نسميه ب»المشاريع المتضادة»، مشروع عربي أو مشروع فارسي إيراني، أو مشروع حركي إسلامي ومشروع ليبرالي، أو مشروع يمثل مدرسة ومشروع يمثل مدرسة أخرى، والكل يبحث عن تأصيل يميزه عما عداه، وينهمك كل مشروع في نقد ممارسات المشروع الآخر». وذكر أن مثل هذه المشاريع المتضادة، هي في النهاية تؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، إن لم يكن هناك وَعْيٌ وإدراكٌ، والتزامٌ بحدود معينة. من الخطأ الشديد أن يتحول التصحيح والنقد إلى لغة معاقبة، واستفزاز لمشاعر الناس وطبيعتهم، وتريد في الأخير أن تذعن ناصيته لرأيك ومراجعتك، و إلا كان ممن عاند وكابر الحق، وشابه فرعون وقارون! وشدد على أن هذه معادلات من الظلم أن يحمل الإسلام والمنهج الشرعي تبعتها، أو المسؤولية عنها، مؤكداً أنها نزعات نفسية في طبائع كثيرين، يتلذذ أصحابها باستذلال الناس وجرهم خلفهم.