كيف يمكن لكرة القدم أن تصل إلى أقصى قارة أميركا الشمالية؟ يبدو أن ذلك من صعوبات الحياة، لاسيما في القرون القديمة وفي ظل شح الإمكانات وضعفها، لكن الساحرة المستديرة لم تستسلم لتلك الصعوبات، واستطاعت أن ترتحل من القارة الأوروبية، والتي كانت تنتشر في ملاعبها بكثرة آنذاك، وكان للرحالة الإنجليز الذين هاجروا من أوروبا سعياً وراء طلب المال، وبحثاً عن وظائف عمل في المناجم ، دوراً كبيراً في جلب كرة القدم إلى القارة الأميركية الشمالية، وإسقاطها في الأراضي المكسيكية، وساهم كذلك بعض المنفيين من إسبانيا بزيادة انتشار كرة القدم، حيث كان الإسبان فارين من جحيم الحرب الأهلية المشتعلة في بلادهم. المكسيك، التي تبدو مناخياً حارة في معظم فصول الالعام، كانت تعرضت لعملية استعمار إسبانية، سيطرت عليها لسنوات طويلة، وبعد أن استقلت عنها بشكل كامل، تقرر أن يتم تسمية هذه الأرض التي انفكت عنها السلطة الإسبانية، باسم مكسيكو وذلك نسبة إلى وادٍ شهير يخترق الأرض اسمه وادي المكسيك، تحيط به الكثير من الجبال والأشجار الطويلة، وبات يسمى هذا الشق باسم ولاية المكسيك، قبل أن تتحرر كامل الأرض المستعمرة من الإسبان، وتصبح دولة كاملة يطلق عليها اسم المكسيك نسبة إلى الوادي. بداية الكرة في بدايات القرن العشرين، بدأت كرة القدم تتنفس الحياة فوق الأراضي المكسيكية، وذلك بفضل العمال الإنجليز والمنفيين الإسبان، وأصبحت كرة القدم منتشرة بشكل ملاحظ، في الأزقة والشوارع المكسيكية، لتتم المرحلة الثانية بانتقال كرة القدم نحو الملاعب الرسمية، وتبدأ عملية تأسيس الأندية الرياضية، وكان أول الأندية التي تأسست هو نادي باتشوكا، والذي وضعت لبناته في العام 1901م وجاء تأسيسه على يد عمال مناجم الكورنيش، وفي مقدمتهم ألفريدو كروول مكسيكي المنشأة والمولد، والذي لعب دوراً بارزاً في الحركة الرياضية في المكسيك، حيث كان هو أول من قاد المكسيك فنياً لتحقيق لقب بطولة وذلك في العام 1935م ، وتأسيس باتشوكا كان هو ميلاد كرة القدم في المكسيك بشكل رسمي، فقد ساهم تأسيس النادي بجلب كرات القدم إلى المكسيك، واستحداث أنظمة وقوانين خاصة بلعبة كرة القدم، ومهد الطريق أمام الأندية الأخرى لتصبح واقعاً ملموساً. تأسس الأندية استمرت عملية تأسيس الأندية الرياضية في المكسيك، ومن أوائل الأندية التي تشكلت في كرة القدم بالمكسيك، نادي غوادالاخارا بالعام 1907م، وبعد سنوات من تأسسه كنادي كريكت، أصبح نادي أوريزابا كروياً في العام 1902م، وذلك على يد المهاجر الأسكتلندي ماك كوميتش، وتأسس النادي البريطاني في ذات العام، على يد بيرسي كيلفورد، ولكن النادي لفظ أنفاسه الأخيرة في العام 1906م بعد أن تم حله بشكل نهائي، وقبلهما جاء نادي ريفورما والذي تأسس ابتداءً كنادي للكريكت، وفي العام 1901م دخلت كرة القدم ضمن نشاطاته الرياضية، وفي العام 1905م تأسس فريقاً تمت تسميته بفريق الكريكت الوطني المكسيكي، والذي انحل وانتهى بحلول العام 1910م. تشتيت الفرق لقد جنت الحركة السياسية في المكسيك على كرة القدم، فبين العامين 1911م و 1915م تم حل الكثير من الأندية وتوقف مسيرتهم الكروية، وذلك بسبب ما يعرف بالثورة المكسيكية، والتي كانت عبارة عن صراع سياسي جنرالي، بين تيارين يتجاذب كل منهما سدة الرئاسة، فقد حكم أولاً بورفيريو دياز ثم تم إجباره على تقديم استقالته، وبعد ذلك جاء حليفه وهو جنرال عسكري يدعى مانويل غونزاليز، ولسنا هنا بمعرض السرد السياسي عن أحداث هذه المرحلة، لكن الذي يهمنا هو تأثير الحركة السياسية على المشهد الرياضي في المكسيك، حيث فقدت كرة القدم في المكسيك الكثير من الأندية، حتى أنه لم يبق بعد هذه الثورة إلا 3 أندية فيما انتهت الأندية الأخرى من الوجود. نشاط رياضي بعد أن انقضت الأحداث السياسية التي عطلت نمو الحركة الرياضية في المكسيك، عاد النشاط من جديد إلى الكرة المكسيكية، وابتدأت رحلة تأسيس الأندية من جديد، فقد نشأ فريق أمريكا وذلك في العام 1916م، وهو أحد أكثر الأندية التي حققت لقب الدوري المحلي وذلك خلال 12 مرة، ويعتبر فريق تيغريس بألوانه الصفراء، أحد أبرز الأندية كذلك التي تأسست في تلك الفترة، ففي العام 1960م أبصر النور وأصبح منافساً على ألقاب البطولات المكسيكية، وهو أحد أبرز الأندية التي حملت لواء كرة المكسيك في بطولات القارة الأميركية الشمالية، حيث لعب الفريق بطولة كأس الليبرتادوريس، ثم التحق للعب ببطولة دوري الكونكاكاف، وهو بطل الدوري المكسيكي في آخر ثلاث سنوات، ويبرز في الرياضة المكسيكية فريق مونتيري الذي تأسس العام 1945م وحقق ألقاب متعددة للدوري المحلي، تأهل على إثره إلى كأس العالم للأندية التي أقيمت في اليابان العام 2011م. منتخب مكسيكي تأسس الاتحاد المكسيكي لكرة القدم في العام 1927م، وترأسه هومبرتو راموس لمدة عام واحد، وفي حلول العام 1929م التحق الاتحاد المحلي بالاتحاد الدولي لكرة القدم، وأصبح واحداً من الاتحادات الخاضعة تحت مظلة الفيفا، لكن تأسيس المنتخب الوطني للمكسيك، لم ينتظر حتى يتم إنشاء الاتحاد ليبدأ نشاطه، فقد استهل منتخب المكسيك نشاطه الكروي في العام 1923م ، حيث خاض مباراته الأولى أمام منتخب غواتيمالا وانتهت المباراة بفوز مكسيكي بنتيجة 3 / 2 ، ويعتبر رافائيل جوتيريز أول مدرب يتولى تدريب المكسيك، وهو الذي أشرف على الظهور الأول لمنتخب المكسيك في البطولات الدولية، من خلال دورة الألعاب الأولمبية العام 1928م، والتي أقيمت في الأوروغواي، ولكن مشاركة المكسيك كانت هزيلة وضعيفة إلى حد كبير، حيث خسر بنتيجة تاريخية أمام منتخب إسبانيا قوامها 7/1 وودع الأولمبياد من دور ال16. أول ظهور في كأس العالم الأولى التي أقيمت في الأوروغواي العام 1930م، كان منتخب المكسيك من أوائل المنتخبات المشاركة في هذه النسخة، ولعب إلى جانب فرنسا والأرجنتين وتشيلي بمجموعة واحدة، وفشل من تقديم أي مستويات تذكر، حيث تذيل سلم ترتيب مجموعته دون تحقيق أي نقطة، فقد خسر مباراته الأولى أمام فرنسا 4/1، ثم خسر في ظهوره الثاني أمام تشيلي 3/0، وفي المباراة الأخيرة تعرض لهزيمة قاسية أمام الأرجنتين 6/3، لتنتهي مشاركة المكسيك الأولى في كؤوس العالم بخيبة أمل كبيرة، وظلت المكسيك بعد ذلك بعيدة عن كؤوس العالم، حتى جاءت نسخة العام 1950م والتي أقيمت في البرازيل، لتعود للظهور مرةً أخرى، لكن ظهورها جاء مخيباً للآمال من جديد، فقد لعبت في مجموعة واحدة مع البرازيل ويوغسلافيا وسويسرا، وفشلت في تحقيق أي نقطة في هذه البطولة، بعد أن تعرضت لثلاث هزائم وودعت المونديال بسجل خالٍ من الانتصارات، مكررة بذلك ما قدمته من أداء هزيل في مونديال الأوروغواي الأول. استضافة مميزة منح الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، شرف استضافة مونديال كأس العالم للعام 1970م إلى المكسيك، وذلك لأول مرة تقام فيه البطولة في قارة أميركا الشمالية، ولعبت المكسيك على رأس المجموعة الأولى، وذلك باعتبارها المنتخب المستضيف للنهائيات، ورغم أن جميع مشاركات السابقة كانت تتوقف عند دور المجموعات، إلا أنها استطاعت في هذه النسخة أن تحقق إنجازاً مميزاً، وذلك استناداً لهتافات جماهيرها التي ساندت لاعبي المنتخب المكسيكي طوال البطولة، واستطاعت المكسيك أن تعبر دور المجموعات كمركز ثان، بعد أن هزمت منتخب السلفادور 4/0، واسقطت منتخب بلجيكا 1/0، وتعادلت سلبياً مع الاتحاد السوفيتي، وفي ربع النهائي ضربت موعداً مع منتخب إيطاليا، كانت الآمال كبيرة في أن تستمر رحلة المكسيكيين في كأس العالم، لكن القوة الإيطالية أحبطت جميع هذه الآمال، حيث انتهت المباراة بفوز تاريخي قوامه 4/1 لمنتخب إيطاليا، لتنتهي مسيرة المكسيك في المونديال. استمرارية تميز لم يكن منتخب المكسيك في كؤوس العالم، منتخباً شرساً ولا قوياً، فقد كان حضوره في بادئ الأمر يقتصر على الوجود الشرفي، إلا أن الأمر اختلف منذ نهائيات كأس العالم 1986م والتي وصل فيها إلى ربع النهائي، ومن بعد هذه النسخة المونديالية، أصبح وجود المكسيك في الأدوار المتقدمة من الأمور المسلم بها في كؤوس العالم، فمسألة عبور وتخطي دور المجموعات أصبح أمراً وارداً، بل إن منتخب المكسيك حجز مقعداً له في دور ثمن النهائي منذ نهائيات كأس العالم 1998م بفرنسا، وحتى كأس العالم التي احتضنتها ملاعب البرازيل العام 2014، ففي مونديال فرنسا خسرت المكسيك أمام ألمانيا 2/1، وفي نهائيات كأس العالم 2002م انتهت مسيرة المكسيك بعد الخسارة أمام منتخب الولاياتالمتحدة الأميركية 2/0، وأمام منتخب الأرجنتين في كأس العالم 2006، ودع منتخب المكسيك النهائيات بعد الخسارة 2/1 ، وأمام ذات المنتخب انتهى مشوار المكسيك في كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا، فقد خسرت 3/1 على يد الأرجنتين وودعت البطولة، وفي نهائيات كأس العالم 2014 كان منتخب المكسيك يأمل في أن يتقدم بنتائجه إلى أبعد من دور ثمن النهائي، لكن منتخب هولندا قتل طموحه وأقصاه من البطولة بعد الفوز عليه بنتيجة 2/1. ترقب قبل روسيا وُجد منتخب المكسيك في المجموعة الأولى، لتصفيات نهائيات كأس العالم المؤهلة لمونديال روسيا للقارة الأميركية الشمالية، ولم يدع للمفاجآت مجالاً في مسيرته بالتصفيات التمهيدية، فضرب بكل قوته على المنافسين، وحسم أمر مقعد التأهل مبكراً، وذلك بعد أن انفرد بصدارة المجموعة الأولى محققاً 18 نقطة، وأقرب المنافسين برصيده 8 نقاط، وهو الأمر الذي يعطي انطباعاً على رغبة المكسيكيين الجادة في تخطي دور ثمن النهائي، في مونديال كأس العالم المقبل وذلك بعد ثلاثة أعوام من تتويجهم أبطالاً لكأس الكونكاكاف العام 2015م، حيث يأمل منتخب المكسيك أن يتقدم في الأدوار التي يصلها في كؤوس العالم، وأن يكسر حاجز دور ثمن النهائي، والذي ظل صامداً من نهائيات كأس العالم العام 1998م، ولن يكون ذلك مستحيلاً لمنتخب يمتلك أسماء لامعة على مستوى دوريات العالم، حيث يبرز في صفوف المكسيك الهداف ونجم وست هام الإنجليزي خافيير هيرنانديز، وحارس المرمى غيرمو أوتشوا، والجناح المميز كارلوس فيلا، وعدد من الأسماء الواعدة التي يعول عليها بطل الكونكاكاف 10 مرات في أن تساعده على تقديم الأداء المميز في موسكو وتعينه على التقدم أبعد من دور ثمن النهائي.