هل يمكن أن تكون الرياض مدينة للأدب؟ 2 من 2 الاربعاء 15 مارس 2017 * د.فوزية أبو خالد مشروع سياسي جمالي أرشيف الكاتب في ضوء ما كتبته الأسبوع الماضي عن نعمة مدن الأدب على الخريطة العالمية كنوع من مقاومة الحروب برقية الأدب والكيد لضراوة الواقع بماء التخيل والخروج على مدن الأسمنت والحديد وغيرها من معازل العنصرية والطائفية والإثنية والشوفانية بالتحليق، سأنتقل لتوضيح المقاييس التي وضعتها اليونسكو، وهي الجسد الثقافي من منظمة الأممالمتحدة، ضمن برنامجها لشبكة المدن الخلاقة لانتخاب مدن الأدب على الكرة الأرضية. والمقاييس التي على أي مدينة بالعالم تريد أن تفوز باللقب مدينة الأدب هي المقاييس التالية: * وجود كمي ونوعي لدور النشر الأدبية بالمدينة يتميز بتعدد الأطياف والمشارب والأساليب والأشكال والمجالات للمنتج الأدبي. * وجود برامج تثقيفية وتربوية كمية ونوعية تتناول الأدب المحلي والخارجي بمختلف أنواعه وبمستويات متعددة من المستويات الأولية لمستويات متوسطة ومتقدمة. * وجود حضور بين للأدب وللمسرح أو للشعر أو الاثنين معا في المشهد اليومي للمدينة، بحيث يلعب دورا في حياة سكانها أو مرتاديها. * استضافة نشاطات ثقافية وإقامة مهرجانات دورية على مستوى محلي وخارجي تعنى بتعزيز موقع الأدب في تكوين هوية المدينة كمدينة للأدب. * وجود مكتبات عامة ومراكز بيع الكتب وكذلك توفر مراكز ثقافية عامة بهدف تعزيز وإبراز الأدب المحلي والعالمي والمحافظة على موقعه في تراث المعرفة الإنساني. * تشجيع نشاط الترجمة للأعمال الأدبية من مختلف اللغات العالمية الحية وتشجيع ترجمة الأدب المحلي للغات أخرى بإيجاد قطاعات نشر مختصة بأعمال الترجمة الأدبية. * إعطاء الأدب المحلي والخارجي حضورا دائما ويوميا على قنوات ومنابر التواصل التقليدية والجديدة ليكون جزءا من صوت المدينة وإيقاعها. * العمل على إيجاد أسواق ونقاط بيع للأدب بالمدينة تجعل كتاب الأدب في متناول البصر واليد خارج المكتبات المتخصصة كما هو داخلها. وفيما يلي أضع مجموعة من المقاييس الإضافية التي تضع مدينة ما على مصاف مدن الأدب وذلك من خلال ما شاهدته ولمسته عبر خبرتي الذاتية في العيش بعدد من مدن الأدب العالمية أما بالترحال إليها ولإقامة فيها أو بالقراءة عنها والاطلاع على تفاصيل استحقاقها لتكون مدنا للأدب. ومن هذه المقاييس الدقيقة لمدن الأدب المقاييس الإضافية التالية: * إيجاد مقاهي يكون محور هويتها الكتاب بحيث يصبح الأدب بأنواعه عشق وكيف يتمازج مع عشق ومزاج القهوة بأنواعها. * إيجاد مساحات لقراءة الأدب ولشرب القهوة في المكتبات التي تعنى ببيع الكتب بحيث لا تقتصر مساحتها على التسويق بل تسمح بمكان رحب يتسع لعشاق القراءة بلقاء روائع الأدب. * إقامة لقاءات في مكتبات بيع الكتب تقوم بالتعاون مع مختصي الأدب وهواته بتقديم كتاب الشهر الأدبي من أكثر الكتب مبيعا أو شهرة على مستوى محلي وخارجي. * استضافة مؤلفين كتب الأدب من الشعر والرواية والقصة ومختلف النصوص الأدبية من الداخل والخارج في المكتبات العامة وفي مكتبة الجامعات والمتاحف الوطنية ومراكز التراث. * إقامة قراءات أدبية دورية في الهواء الطلق بالحدائق العامة أو في المواقع الأثرية كمرابع (ليلى وقيس بن رباح على طريق رماح) بمدينة الرياض. * تحويل بيوت الأدباء الشعراء والمفكرين أو مواقع البيوت إن كانت قد أزيلت إلى بيوتات للأدب، مثل موقع بيت النابغة الذبياني بمنفوحة في مدينة الرياض أيضا. مما قد يعيد للحي اعتباره ويخرجه على خط الفقر الذي يعيش تحته بقليل من أجنحة الأدب وأخيلة الشعر. ومثله مع مسافة التاريخ واختلاف المجال, بيت حمد الجاسر. وكذلك بيت إبراهيم الحجي، عبدالله بن خميس، عبدالعزيز المشري وغازي القصيبي. أي تصبح بيوت من رحل من الأدباء مواقع أدبية تحمل أطياف أحلامهم ورائحة حبرهم لاستضافة أدباء الداخل والخارج بتسليط الضوء على المنتج الأدبي والفكري لصاحب الدار ومحطات حياته. * التنسيق مع المدارس من الابتدائي إلى الثانوي بنات وبنين لاستضافة أديب/ أديبة على الأقل مرة في الفصل الدراسي الواحد لعرض مؤلفاتهم والحديث عن تجربتهم لخلق علاقة وجدانية بين الأجيال الصغيرة وبين الأدب وأدباء وطنهم أو أدباء الخارج. وهذا يجسد علاقة حية مع الأدب بالتعرف على بعض رموزه ومبدعيه وليس فقط بالقراءة لهم. * جعل الأدب جزءا من الاحتفاءات الوطنية والأعياد والمناسبات العامة سواء مسرحا أو شعرا يلقى أو يغنى. * وضع جداريات أدبية في المدينة بعضها متجسد وبعضها إلكتروني. على سبيل التخيل مثلا، كتابة مقاطع أدبية وعبارات أو أبيات ومقطوعات شعرية من المنتج الأدبي المحلي والعالمي على جداران الجامعات، على جدارية مضمار المشاة بممشى طريق الملك عبدالله جوار جامعة الأمير سلطان, بساحة البجيري بالدرعية بالجداريات المحيطة ببعض الساحات في الحي الدبلوماسي مثل ساحة الكندي حديقة الطلح الخ. وبمثل هذا المنظور الأدبي لتشكيل هوية المدن, كمدينة الرياض مثلا للفوز لها بلقب مدينة الأدب، يمكن وضع معلقات جمالية ضوئية أو لوحات فنية يتعانق فيها التشكيل مع الشعر أو العبارات الأدبية الشرسة أو الشفيفة في محطات القطار ومواقع النقل الجماعي (ولا يضحك من مقترحي أحد، لأنها يمكن أن تكون بالعربية وبترجمات للغات الأغلبية من العمالة كالأردو والإيراني والتجالوا والأثيوبي الخ), وكذلك وضع معلقات لمقطوعات شعرية وأدبية بالمطار. وعندي شخصيا تجربة ذاتية في هذا المضمار حيث جاءني اتصال من استوديو الرسامة والمصورة العالمية جيني هولزر بنيويورك يريدون مني إذنا مدفوع الثمن لحقوق النشر الدائم لواحدة من قصائدي لتكون ضمن مجموعة كبيرة من قصائد عالمية تقوم الفنانة جيني هولزر ضمن تجربتها الإبداعية الفريدة في التشكيل بالشعر بوضعها على جدارية ضوئية ضخمة بالمطار الدولي لأحد الدول. كما عندي تجربة شخصية في أستراليا عندما استضافتني وزارة الصحة الأسترالية مع عدد آخر من الشعراء والأدباء على هامش معرض مالبورن الدولي للكتاب لنقوم بالحضور وقراءة شيء من مختاراتنا الأدبية على المرضى في قاعات مخصصة لاستقبال هذا النوع من النشاط الذي يشحذ معنويات المرضى لمقاومة المرض والاستشفاء بالأدب. بل واستضافتنا عددا من كليات التخصصات العلمية (التخصصات العلمية) كالطب والهندسة لنتحدث عن معنى الشغف في الأدب ومتطلبات الصبر لإنتاج الأدب. هذا عدا عما اطلعت عليه أو خبرته ميدانيا عندما استضافني نادي القراءة الدولي بأرامكو كمتحدثة وفي مناسبات أخرى مماثلة عبر القارات لتجارب زملاء من شتى أنحاء العالم وتجربتي شخصيا في ورش عمل أدبية تقام من مستوى المدارس الابتدائية إلى مستوى الدراسة الجامعية. وتقام للهواة كما تقام بين المحترفين من الأدباء، وبين شبيبة الأدب وبين معمريه لتبادل كؤوس الخبرات والأخيلة معا. وهناك أيضا اهتمام خاص يولى عادة ضمن الاهتمام العام بمنظومة الأدب لأدب الفتيان وأدب الطفل. بل إنني صادفت في أستراليا أيضا اهتماما فريدا من نوعه بأدب الجدات أو حكايا الجدات يقام أسبوعيا وبمناسبات الأيام الحقوقية كيوم المرأة ويوم الشعر ويوم الطفولة واليوم الوطني، حيث تبرع الجدات في اختراع الحكايا أو أحياء المبتعد منها.. وفي هذا المقال لم أورد إلا عينة منوعة صغيرة لما يمكن أن تكون عليه مدن الأدب ولمقاييس اليونسكو لإعطاء مدن بعينها حول العالم استحقاق لقب مدينة الأدب. والحقيقة الموجعة أنني لم أجد في أغلب مصنفات مدن الأدب إلا مدنا غربية والقليل من مدن الشرق والشرق الأوسط أو المنطقة العربية. وغني عن القول إن عددا من الفنون البصرية والسمعية الأخرى تكون عادة شريكة في تحويل مدينة تجارية أو عاصمة سياسية أو مدن توصم بالإرهاب إلى مدينة أدب تكشف عن الوجه الإنساني للأوطان وللشعوب ودولها. من بعض مدن الأدب الأخرى حول العالم غير التي كتبت عنها بمقال الأسبوع الماضي، مدينة سانتياغو عاصمة تشيلي بأمريكا اللاتينية وتشتهر باحتفاء جامعاتها بالأدب وبورش العمل للأدباء وبلماسيدابارك التي تحوي ما يقارب 30000 كتاب أدبي. هناك أيضا مدينة ستكولهم التي وضعها ألبرت نوبل على أعلى قائمة الأدب بجائزتها السنوية للأدب وبما جعل المدينة نفسها مادة للكثير من بطولات الأدب ككتاب الأغاني لكارل مايكل وكتابات المسرحي أوغسنت ستريندبرع. أما مدينة سالزبرغ بالنمسا فقد حولها بيت موزارت ومسرحية صوت الموسيقى كرمز لمقاومة الحرب بالأدب والشعر إلى أيقونة للأدب. وتبقى مدينة بورتلاند باوريجن في الشمال الغربي لأمريكا كمدينة عالمية للأدب ولي شخصيا كنز الأدب وكمين الأمكنة. فهي المدينة التي يقال عنها إذا لم يكن لديك خريطة لها فستضيع فيها بين غابات الكتب. ففوق وخلف وبجانب كل شجرة من أشجارها الغابوية يوجد كاتب أو شاعر أو مسرحي أو مشروع مبدع أو روح متمردة على الواقع بالأدب أو قارئ متيم بالأدب مثلي ومثل كل المرضى بملاذات الكلمة الذين يعتبرون الأدب مصحاتهم الشخصية ودنياهم الحقيقة والأدباء أطباءهم وأصدقاءهم وأبطالهم الحقيقيين. وفي إطار هذا المجد الأدبي تضم بورتلاند وحدها من مدن أوريجن مجتمعة، مليون مجلد من الكتب وعددا كبيرا من التجمعات الصغيرة للأدباء والشعراء والكتاب من بقايا حركة الهيبين إلى أساتذة الجامعة الوقورين. وكان من حظي يوم كنت أتعلم هناك في الربع الأخير من القرن الماضي ويوم كنت أُعلم هناك في العقد الأول من القرن الحالي أن بعض المشهورين عالميا من أولئك الأدباء والشعراء كانوا إما أساتذتي أو أصدقائي والكثير من المغمورين منهم كانوا أصحابي الخلص. وتعتبر مكتبة مدينة بورتلاند المركزية, وسط البلد معلما من معالمها, مثل جبل هوود ونهري الولايميت والكولمبيا وأشجار الولوو الحزينة و»طائر» القندس وحديقة الورد Rose Garden.وبورتلاند تعتبر من أوائل المدن الأمريكية التي حولت واحدة من أكبر مكتباتها التجارية مكتبة (بووول) بأعمدتها المصممة من الخارج على هيئة كتب لتحاكي داخلها المحشو بالكتب وبطوابقها الثلاث إلى مكتبة تمزج بين رائحة القهوة وعبير كتب الأدب. وبينما أستطيع أن أقول باعتزاز إن تلك المكتبات مكتبة بوول في منطقة اللؤلؤة لما كان يسمى الجانب المحترق من المدينة burn – side, ومكتبة جامعة بورتلاند بمطلاتها الخضراء كانتا, عندما أقمت ببورتلاند إقامتي الثانية في 2009م، عبارة عن حديقة بيتي الخلفية والأمامية ومهجعي ومطعمي ومطبخي للعمل وملعبي للترويح ومكتبي لتصنيع الأحلام ومختبري لفحص نسبة محلول الحبر في دمي وشاشتي ولوحة مفاتيحي وشرفتي على أنواع المعرفة وخاصة الأدب، فإنني بحاجة لأن أجد مطرحا في الرياض في وطني يتسع لروحي كلما ضاق بي الجسد أو ضقت به. فهل يمكن أن نصنع من الرياض ومدن أخرى من المملكة مدنا للأدب تضع معادلا جماليا مغايرا لجذب العقول والوجدان للمملكة غير غواية الاستثمارات الأجنبية الاستهلاكية. وبثقة أقول حقا نستطيع لو وجدت الإرادة السياسية والرؤية الفكرية المستنيرة والسواعد الفتية والعشق الوطني المعمر تحويل الرياض ومدن أخرى من بلدنا إلى مدن خلاقة للأدب.