من أين اكتسبه ..؟ د.يوسف بن أحمد القاسم يوم القيامة يسأل الإنسان عن أربع ''وفي رواية عن خمس''، منها: أنه يسأل عن ماله من أين اكتسبه..؟ ومصادر الكسب اليوم تشكل علامة فارقة على نهضة الدول وحضارتها متى كانت مصادر نظيفة، وكثير من الدول الصاعدة والمتحضرة، كان من أهم أولوياتها الإصلاح، ومنه الإصلاح المالي، والقضاء على الفساد، ومحاصرة الفاسدين، بسؤال الجهات الرقابية والضبطية والقضائية للمتورطين في قضايا فساد بالسؤال الشهير: ''أنى لك هذا..؟'' فنهضت تلك الدول بموارد محدودة، وحققت قفزات اقتصادية كبيرة، وذلك من منطلق الإصلاح بمعناه الواسع، وفي المقابل نجد كثيرا من الدول يتباطأ نموها الاقتصادي، وربما يتقهقر؛ بسبب الخلل في مصادر كسب أفرادها، ولا سيما إذا كانت مبالغ طائلة للمال العام تتجه باتجاه عكس السير؛ ولذا نجد الدول التي نخر فيها الفساد المالي، ووقع فيها ارتباط وثيق بين السلطة والمال، نجد أنها من الدول المتأخرة وربما المتخلفة اقتصاديا؛ بسبب استغلال مال الدولة لمصالح شخصية، كما نلحظ في تلك الدول تفاوتا كبيرا في الثروة بين أفراد المجتمع بسبب الفساد - لا بسبب التفاوت الطبيعي المشار إليه في قوله: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا..) - وهذا التفاوت الناتج من فساد ممنوع شرعا ونظاما، فلا يقبل أن تملك شريحة واسعة من المجتمع دولارين في اليوم الواحد، بينما تنعم شريحة أخرى بملايين وربما بمليارات الدولارات مما تكفي لسد حاجة شعوب بأكملها..! وكثير من الثورات الشعبية اشتعلت في بعض الدول لأسباب منها الفساد المالي، واستغلال بعض المتربعين على كرسي السلطة لسلطتهم لحصد أكبر قدر ممكن من الملايين أو المليارات من أجل تحقيق مكاسب ممنوعة، ثم ما تلبث السلطة أن تسقط، ويسقط رموزها، وينقض عليها الثوار، فتتم الملاحقة القانونية، وتنكشف الأرصدة، وتظهر الأرقام الفلكية للثروات، كما وقع في تونس ومصر، ونشرته صحف بريطانية، وتناقلته قنوات فضائية، ولم يعد سرا. ولأجل محاصرة الفساد في المملكة أصدرت الدولة نظام مكافحة الرشوة، ونظام مكافحة غسل الأموال، ونظام مكافحة الغش التجاري، ونظام تأديب الموظفين، إضافة إلى المرسوم الملكي الخاص بمساءلة الموظفين ومحاسبتهم عن مصادر ثرواتهم المشكوك فيها، وهذا يدل على أن المنظم اعتنى بضرورة محاسبة الفاسدين، ومحاصرتهم، ولم يبق إلا دور الجهات الرقابية، ومن أبرزها: ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، والجهات الضبطية، ومن أبرزها: المباحث الإدارية ووحدة التحريات المالية، إضافة إلى الدور المهم للجهات الرسمية المختلفة، سواء التنظيمية منها كمجلس الشورى، أو القضائية كالمحاكم الشرعية، أو التنفيذية كإمارات المناطق..، وقبل ذلك كله الوازع الديني لدى الشخص. إنك تعجب أشد العجب من موظف أو مسؤول يحاول حشد أكبر قدر ممكن من الملايين أو المليارات، ثم يحملها على ظهره يوم القيامة، ويكون غنمها لورثته، وغرمها له، وفي صحيح مسلم عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأسد على الصدقة - يقال له ابن اللتبية - فلما قدم، قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئا، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر..) فيا لله.. كيف من يحمل على عنقه يوم القيامة ملايين أو مليارات النقود، أو عقارات أو سيارات..، أخذها بالرشوة أو من دون وجه حق..؟ كيف سيكون وضعه وقد تجرأ على هذه الأموال..؟ إنه لن يكون بمنأى من العقوبة ولو تجرأ على القليل من المال؛ لأن هذا ليس من حقوق الله التي تدخله المسامحة، بل من حقوق كل أفراد الدولة، ففي صحيح مسلم عن عدي بن عميرة الكندي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة) والمخيط الداخل في إيرادات الدولة أصغر في حجمه وربما في سعره من قلم من أقلامها، أو حبر من أحبارها..، إذن فكيف بالأموال الطائلة..؟ وكيف بمن يغش المسلمين في المقاولات وغيرها ليمتص أكبر قدر ممكن من الأموال المحرمة..؟ وكيف بمن يوقع عقودا من أجل أن يحصد نصيبه من الكعكة..؟ وكيف بمن يتوصل إلى عمله أو وظيفته بشهادات لا تؤهله..؟ وكيف بمن يسهم في توزيع درجات دراسية أو شهادات أو وظائف لمن لا يستحق..؟ لتحقيق مصالح.. أو لمجرد مجاراة الآخرين. رحماك يا رب.. اللهم إنا نضرع إليك أن تغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وأن تتجاوز عن تقصيرنا..، إنك أعظم مسؤول.