أكّد إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس أنَّ مِنْ أعظم ما يُقوض المَعَالِم الحضارية، خصلة نَكْرَاء ذميمَة، تُقَوِّض الحضارات، وتُفْنِي مُقَدَّرَاتِ المُجْتمعات، وصاحب هاتِيك العُرّة لا يَزَال مَذْمُومَا، وبِأقْبَحِ النُّعوت موسومَا، تِلكم عافانا الله وإياكم هي جَريرَة الغِشِّ والخدَاع. وقال فضيلته في خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام: "ولفظاعة هذا الدَّاءِ الدَّوي، والخُلُق الشَّرِسِ الدَّني، ولإِخْلالِه بِنِظام الأمْن التّجَاري، والأمْن التعامُلِيّ، وتشويهِهِ إشراقة المُجْتمع المُتراحم المُتَوَادِدِ، المُتَحَابِّ المُتَعَاضِد، حَرَّمَت الشريعة ذاك البُهتان، وتوعّدَت فاعِله بِالوَيْلِ والخسْرَان، وفي ذلك أُنْزِلَت سُورة مِن القرآن، قال العزيز الدَّيَّان: {ويل للمطففين الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}، ولِتِلك الخُلَّة الذَّميمَة، والعُرَّة القَاتِمة الأثيمة أقصَى المُصطفى الغاشّين عن المُجْتمع، وعَدَّهم مَارقين عَنْه، مَنْبُوذين عن سِلكه وَوَحدَتِه، وآصِرَته ولُحْمَتِه، فقال :«مَنْ غشَّنَا فليس مِنَّا» أخرجه مسلم في صحيحه. أي: لَيْسَ على هَدْيِنَا وسِيرَتِنا، في قول المحققين من أهل العلم، وتلك صيغة من صيغ العموم، تشمل جميع أنواع الغش وصوره، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". وأوضح فضيلته أنّ الغِشُّ في المعاملات هو خدِيعة المُشتَري والتَّغرير به، وله ضروب وصُوَرٌ شتَّى، منها: خَلْطِ الجيِّدِ من البِضاعَة بالوضيع، وبَيْع الجميع على أنَّه مِن الرَّفيع، أَو كِتمَان مَا فِي السِّلَع مْن عَيْبٍ ونُقصَان، وذلك عَيْن الغش وسبيل الخذلان، ومِنها مَا يُرَوَّج له من التخفيضات عَبْر الدِّعاية الكاذبة أو الإعْلان، وما حقيقة ذلك الإنتاج، إلاّ التدليس والبُهْتَان ومن النَّاسِ منْ يُسَوِّق سِلعته بِكاذِبِ الأيْمَان، ومَا دَرى أنَّ ذلك يَسْلُبُ البَرَكة ويَخْدِش الإيمان، فَعَن سَيِّدِ ولَدِ عَدْنان عليه الصّلاة والسّلام: [الحَلِفُ مَنْفَقَة للسِّلعة مَمْحَقَة للبركة] مُتّفق عليه. وبيَّن فضيلته أنّ مِنْ غَرَائِبِ الزَّمان، أنَّ فِئامًا من النّاسِ هداهم الله يظُنُّون الغِشَّ كياسَة وذكاء، ومَسْلكًا لاكتِسَابِ الرِّزق أو الوجَاهة دون وَنَاء. وهذا الضَّربُ من المعاملة توحِي به قلوب أصْلَبُ من صُمِّ الصَّفَاء، قدْ تنصَّلَت مِنَ الرَّأفة والصَّفا، فالغاشُّ عياذًا بالله قد عَشِيَ عن مَكسَبِه، أهو مالكه أم هالكه أم تاركه؟ فَيَا أخْدَان الغِشِّ والخديعة، أتتشبعون بسُحْتٍ قضَمَته أسْنانُكم، وكَسْبٍ غَشَّتْه أيْمَانُكم؟ ربَّاه ربَّاه! مَا أحَطَّ الإنسان الذي دَمَّرَ بِالغِشِّ أُمَّته وقِيمَه، وطَمَسَ بِالمُمَاذَقَةِ مَشاعِرَه وشِيَمه، أمَا استقى مِن رحِيق التوحِيد، أما يَخشى وما فيها مِن وعيد. {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} وشدد الدكتور السديس على أن الشَّرَهُ والغِشُّ، وأكل أموال الناس بالزور والباطل، دنس في النُّفوس، فعلى دُعَاةِ الإصلاح أن يَدْحضوه بالحكمة والموعظة الحسنة. وعِوَجٌ في المجتمعات، على المسؤولين تقويمه بالعزائم الفاعلة النَّافذة. بل جريمة من جرائم العصر لا يحتمل علاجه التّسْويف والإبطاء، وثَنْيُ الأعطاف دون الغَشَشَة، مِن أشنع الأخْطاء، فمن الواجب كشْف مقاصدِهم، وصدُّ مفاسدهم، فهم الأُلَى هدَّدوا حصون الأمَّة من داخلها، وكانوا هداهم الله مآسٍ في مناجحها، وغضونا في وضَّاء ملامحها. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون}. وقال فضيلته: "وحاشا أنّ يكون ذلك الطرح من التشاؤم العياء، ولا من الرُّنُوِّ إلى الدَّاء، كلاَّ، فالصدق والوضوح بحمد الله في الأمة عميم، والإتقان والإبداع جميم، والتنافس في التّميُّز مُبْهج سَار، ولطلائع الإبداع نِْعم المسار، ولكنَّها الإلمَاحَة إلى النصح الذَّاتي السَّدِيد، والإصلاح البَنَّاء الرشيد، وتذكير بَيْنَ واقع المجتمعات، وأحكام الإسلام الهَادِيات، وأنعم بأمتنا، وياسُعدى لها وقد تزَكّت معاملاتٍ وترَقَّتْ أخْلاقا، وتحَلَّت مِن مُرَاقبَةِ اللهِ وخَشْيَتِه أطواقا، ونَأَت عن دِمَن الغِشِّ والتَّغرير تولِّيًا عنَاقَا، وحينها تحصد بإذن الله النتيجة البهيجة، والغاية الأريجة، فتتبوأ أسنى المراتب في التراحم والتّآلف إشراقًا، وأزكاها في العالمين أعراقًا، وأيْنعها في الشّفافِيّة أوْرَاقًا، وتترقى في معارِج المَجْدِ ائتلاقًا، ويباكرها المَجْد والنَّصر دَفَّاقًا، ذلك الرَّجَاء والأمل، ومن المولى نَسْتلهم التوفيق لِصالح العمل، نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وبسنة النبي المصطفى الأوّاب". وفي المدينةالمنورة قال إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ علي الحذيفي في خطبة الجمعة اليوم: "إنّ من أعظم النعم على العباد الذرية الصالحة التي تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتؤدي الحقوق التي أوجبها الله تعالى على الخلق، فقد امتن الله على عباده بالذرية فقال عز وجل: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات}، كما أثنى الله تعالى على من رغب إليه بالدعاء في طلب صالح الذرية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين. وأوضح فضيلته أنّ الذرية نعمة من الله تعالى من وجوه كثيرة، من حيث أنّ الذرية تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأنّ الله تعالى لم يخلق الإنس والجن إلا ليعبدوه كما قال عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. مضيفًا أنّ صلاح الكون يكون بعبادة الله لا شريك له وفساد الكون بالإعراض عن عبادة الله والشرك به. وبيّن فضيلته أنّ الذرية نعمة من حيث أنها امتداد لعمر الوالدين، وحاملة لصفاتهما وصفات أصولهما وتجديدًا لذكرهما، ومن حيث تعاقبهم على هذه الأرض يعمرونها ويصلحونها على مقتضى الشرع الحنيف ويهيئونها لاستخدامها لطاعة الله عز وجل، والاستعانة بها على مرضاته وعلى عبادته، كما أنّ الذرية نعمة من الله من حيث أنها قوة للأمة ينصرون الدين ويحمون حوزة الإسلام من عدوان المعتدين وعبث العابثين والمفسدين، فإذا تبين للمسلمين عظيم نعمة الله على العباد بعطائه الذرية وتفضله عز وجل بالأولاد على الآباء والأمهات وجب شكر الله على نعمه الظاهرة والباطنة، ووجب القيام بحقوق الأولاد ورعاية مصالحهم والعناية بتربيتهم تربية متكاملة ليكونوا لبنات قوية صالحة في بناء مجتمعهم. وأكّد فضيلته أنّه إذا كانت الواجبات موزعة على كل فرد من أفراد المجتمع حسب مسؤوليته وموقعه نحو الأجيال الحاضرة والمستقبلة؛ فإن البيت عليه المسؤولية العظمى، والأسرة نواة المجتمع وحاضنة أفراده، ولها تأثير كبير على أعضائها وأول ما تجب العناية به تربية الأولاد على عبادة الله وحده عز وجل لا شريك له، وإقامة الصلاة، فإذا أُمر الشباب بعبادة الله تعالى وألفوها فازوا في أمورهم كلها، وتشويق الأولاد إلى الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الاهتداء بهديه، وغرس محبته في قلوبهم؛ فهو القدوة المثلى في كل شيء. مشددًا على أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض واجب، والناس يتفاضلون في هذه المحبة، فقد كان السلف الصالح يعلمون أولادهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلمونهم القرآن الكريم، فتأثيرها لا يخفى على كل أحد درسها ووعلمها. وذكر فضيلته أنّه مما تجب العناية به والاهتمام أنّ يتعلم الشباب مسائل الدين بالأدلة من الكتاب والسنة ليكونوا على بصيرة في دينهم وليأخذوا الإسلام قناعة وحبًا ورغبة لا تقليدًا وعادة وسطحية؛ وما ضر شباب المسلمين إلا الجهل بالدين بالغلو فيه، أو التقصير فيه، والاعتصام بالكتاب والسنة يجمع الخير كله، وأفضل ما أفنيت فيه الأعمار تعلم الكتاب والسنة، كما أنّه مما يجب العناية به تربية الناشئة على بر الوالدين، وتوقير الكبير ورحمة الصغير والإحسان وحفظ الأمانات، ورعاية حقوق الخلق. مبينًا أنّه مما يؤثر في التربية الصالحة قراءة سير الصالحين من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسماع وصايا الحكماء والعلماء. وأردف فضيلته: أنّه مما يجب الاهتمام به؛ حثّ الناشئين على لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فإنّ يد الله مع الجماعة، ومن فارق الجماعة فقد خلع رفقة الإسلام من عنقه، ومن شذَّ شذ في النار. كما أنّه مما يهتم به، ويجب العناية به وتحصين الشباب به، هو الزواج للذكور والإناث، والسعي لتيسيره فإنّه أمان من الانحراف وبركة على المجتمع. ومما يجب القيام به العناية بالمرأة بتربيتها على الأخلاق الإسلامية، والتمسك بالحجاب الذي أمر الله تعالى به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولزوم الحياء والعفة والستر؛ فإنّ المرأة إذا صلحت أصلح الله بها، وإذا فسدت فسد المجتمع؛ فإذا بذل الوالدان أسباب صلاح الذرية ووفق الرب عز وجل، صارت الذرية خيرًا وبركة ونفعًا للمجتمع، وعملاً صالحًا بعد موت الوالدين.