التعايش المذهبي في عصر ثورة التواصل المعرفي بات مهماً وملحّاً من حيث التناول والاهتداء، فالحاجة المعاصرة للتعايش بين المذاهب قد لا تكون راجعة لخدمة التراث الفقهي العظيم الذي خلّفه السلف الأوائل وإن كان ملهماً من حيث الاجتهاد والاقتداء، ولكن الأهم من وجهة نظري أن الحاجة أعمق في معرفة قواعد التعايش التي خلّفوها لأتباعهم خصوصاً في لحظات التداخل الظرفي بين المذاهب زماناً أو مكاناً من أجل الاهتداء بهذا الأدب الرفيع والفقه العميق، فشواهد الائتلاف على رغم عمق الاختلاف الفروعي، قد تؤسس في ذهن الأجيال اللاحقة ضرورة استلهام أدب التعايش وفقه التحاور وحفظ القلوب من الشتات والتباعد في وقت تداخلت كل الظروف والمعطيات التواصلية بين المذاهب والمشارب والتيارات بسبب تقنية الاتصال وثورة المعلومات، وفي هذا مغنم كبير في تكوين بيئة خضراء منفتحة للاختلاف الذي لا يُفسد الود ولا يُذهب العلم، ولو تم التركيز على هذا المعنى وتأصيل مفاهيمه وتنزيلها على واقعنا اليوم لتربت أجيال المسلمين على فقه العيش وتعزيز قيم التراحم وتأصيل مبدأ التعارف بين الشعوب والقبائل والمذاهب والطوائف. والسؤال الذي يطرحه المقال متعلق بمذهب الحنابلة على وجه الخصوص، هل كانوا كما يتصور البعض ويروّجه بعض الكتّاب، دُعاة غلو وتشدد؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال النقاط الآتية: أولاً: ظهر الحنابلة في غالبية مراحلهم الذهبية كدعاة للسنّة وقمعٍ للبدعة مقتدين بإمام المذهب الإمام أحمد بن حنبل، ما جعلهم في مقاومة ضد الفساد والظلم وتخاذل السلطان، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر من دون رهبة، ويقفون في وجه مخالفيهم من دون تنازل، من ذلك موقفهم من المعتزلة في قضايا التأويل، وموقفهم ضد الشيعة في قضايا خلاف الصحابة وإنكار بعض السُّنن، واصطدموا بالأشعرية في معارك كلامية طويلة، يحكي هذا الخُلق والطبيعة إسحاق بن أحمد العلثي الحنبلي في قوله: «وما زال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت ولو ضُربوا بالسيوف، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون بشناعة مشنع، ولا بكذب كاذب، ولهم من الاسم العذب الهني، وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالاً بالآخرة: ما هو معلوم معروف (ذيل طبقات الحنابلة 269)، كما أنهم تجاوزا شأن العامة إلى الإنكار على الملوك والسلاطين والأمراء، ويكتبون لهم في ما يرونه مخالفاً للشرع، ويقومون بالحسبة، فداروا في الأسواق وأراقوا الخمور وحطموا آلات الطرب، وفق تقدير المصلحة والمفسدة في ذلك، وكانوا مع ذلك كله زهاداً فقراء لا يستشرفون إلى مناصب الدنيا. يذكر الحافظ ضياء الدين المقدسي أنه «كتب بعضُهم إلى أبي الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفت من الإنصاف. فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجاً عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها، لم أحفظ على أحد منهم تشبيهاً، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار، والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق» (المرجع السابق 61). هذا السمت الفقهي والسلفي الذي اصطبغ به الحنابلة إنما كان في الأجيال الأولى التي عقبت جيل مؤسس المذهب في شكل واضح وجلي، وسببه التأثير الهائل الذي خلّفته شخصية الإمام أحمد في أتباعه، لذلك كان من منهج التلقي الفقهي الاقتداء بصفاته ومواقفه الصلبة كما في فتنة خلق القرآن وغيرها، فالتشدّد هنا يُفهم من خلال حرصهم على المقام المثالي والعالي في النصح للأمة والزهد في الدنيا، وكان عدد ممن وصفوا بأهل الحديث من مذاهب مختلفة يسيرون وفق هذا السَنَن من التخلق والتفقه، وهذا ما جعل الحنابلة أقرب إلى وصف أهل الحديث من أهل الفقه. ثانياً: علماء الحنابلة ليسوا مذهباً مختلفاً عن بقية أصحاب المذاهب الأخرى، وليسوا فئة من دارسي علم الحديث فقط، بل لهم تواصلهم الاجتهادي المتسلسل مع أئمة المذاهب الأخرى، فالإمام أحمد قد أخذ عن عدد من الفقهاء الكبار مثل أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة النعمان وأخذ عن الإمام الشافعي ولزمه وكذلك عن سفيان بن عيينة وابن عُليَّة وابن المبارك وعبدالرزاق الصنعاني، وهذا التنوع يؤكد التواصل المعرفي والفقهي الذي كان يربط الإمام أحمد مع بقية شيوخ المذاهب الأخرى، وعلى ذلك سار أئمة المذاهب في الطبقات الأولى من حيث الأخذ من بعضهم والطلب المتبادل بينهم، هذا من حيث الأصل، فالتكوين الفقهي يقتضي هذا التمازج التحصيلي لأخذ فنون العلم الموجودة عند علماء العصر من مختلف المذاهب، وقد يحصل أن يتخذوا موقفاً تحذيرياً من طائفة بسبب انحراف عقدي أو توتر سياسي يلغي روح التعاون والترابط بين الفقهاء وهو ما سأشير إليه في النقطة الأخرى. ثالثاً: إن علاقة الحنابلة بفقهاء المذاهب لم تكن وردية الطابع وسلمية المنزع في كل أحوالها بل حصلت مواجهات اتسم بعضها بالعنف، ويمكن إرجاع أسباب هذا التدهور في العلاقة لأمور منها البُعد السياسي في الخلاف وتحوله إلى معادلة تروم السلطة السياسية تحقيقها من خلال فقهاء الموالاة ضد فقهاء الرفض، وبالتالي مارسوا أحياناً دور الجلاد ومرة دور الضحية، وفق الميول السياسية في عصورهم المختلفة، فمرة قمعوا المخالفين كما حدث في عهد المتوكل العباسي، ومرة كانوا ضحية القمع المعتزلي كما حصل في عهد الإمام أحمد بن حنبل مع المأمون والمعتصم والواثق، ثم ما حصل مع ابن تيمية والمماليك في مصر والشام من إيذاء وإذلال واعتقال (انظر: خلاف الفقهاء مع ابن تيمية، الدرر الكامنة 1/ 154). وبغداد كانت الأشد وضوحاً في الصراع، خصوصاً في فترة تولي بعض الشيعة الوزارة ما جعل الحنابلة بقيادة بعض محتسبيهم القيام بالإنكار على بعض مراثي الإمام الحسين ما أدى إلى مواجهات دموية مستمرة خلال القرن الرابع الهجري (انظر:البداية والنهاية 11/ 206). ومن الأسباب المهمة في الصراع الحنبلي مع خصومهم، تحول الخلاف الفقهي إلى مفاصلة عقائدية، تحكم على المخالف بالضلال والبدعة، وهذا ما جعل التعايش يفقد حيويته في فترة الصراع بين الحنابلة والمعتزلة وبينهم والأشاعرة. وفتنة ابن القشيري عام 514ه مثل واضح، فقد واجه أبو جعفر العباسي الحنبلي ابن القشيري لما وصفهم بأنهم مجسمة وحشوية، ما أدى إلى تعدي بعض الحنابلة عليه، ثم إلى إغلاق المدرسة النظامية بسبب المواجهات الدموية بين أتباعهما (المنتظم لابن الجوزي 17/ 191). رابعاً: تفشى التعصب المذهبي في القرنين الرابع والخامس، خصوصاً في العراق، فقد تحولت بعض المناطق إلى ساحات قتال وصراع بين العوام المتعصبين لأئمتهم ومذاهبهم. قال ابن الأثير: «وفيها أي سنة 323ه عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون دورالقواد والعامة، وإن وجدوا نبيذاً أراقوه وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء ومشْي الرجال مع النساء والصبيان فإن رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة، وأرهجوا بغداد فركب بدر الخرشني وهو صاحب الشرطة عاشر جمادى الآخرة ونادى في جانبي بغداد في أصحاب أبي محمد البربهاري الحنابلة ألا يجتمع منهم اثنان ولا يتناظروا في مذهبهم ولا يصلي منهم إمام إلا إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشائين فلم يفد فيهم وزاد شرهم وفتنتهم واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم» (الكامل 8/ 308). بالتالي ندرك أن أكثر الحوادث التي وقعت بين الحنابلة كانت في زمن محدد ومن شخصيات حنبلية محددة لها خصومات شنيعة شكلت معارك كرّ وفرّ في بغداد على وجه الخصوص. لذا، يصعب وصف جميع الحنابلة وفي كل عصورهم بوصف ابن الأثير أو غيره من المؤرخين. خامساً: الحنابلة في تاريخهم وتراجمهم جمعٌ كبير من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وعلماء اللغة، فهناك أكثر من سبعة وعشرين كتاباً يجمع تراجم الحنابلة وفي عدد من الأقطار الإسلامية في الحجاز والعراق والشام وفلسطين ومصر ونجد وغيرها، ولم يعرفوا بهذا الوصف من التشدد، يقول القاضي أبو يعلى: «الحنبلية على ثلاثة أصناف: صنف زهاد يصومون ويصلون، وصنف يكتبون ويتفقهون، وصنف يصفعون كل مخالف» (طبقات الحنابلة 3/ 76). سادساً: هناك مواقف كثيرة لدى الحنابلة تدل على التسامح مع المخالف في العقيدة والتعايش مع أصحاب الطوائف الأخرى وهذا يجب أن يذكر مع مواقف بعض المتشددة، ومن ذلك التسامح، مواقف عدة للإمام أحمد بن حنبل مع الشيعة، مثل إدراجه روايات آل البيت في مسنده على رغم معارضة خصومهم ومنهم الخليفة المتوكل الذي كان يكره ذلك، ومع ذلك استمرت علاقته مع عموم العلويين، حتى قيل للمتوكّل إنّه يؤوي العلويين ويدعو إلى بيعتهم، وقد فتش منزله للتأكد من ذلك. كما أخذ الإمام أحمد الرواية من عدد ممن عرفوا بالتشيع وقد ذكرهم ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد، وذكر الخطيب البغدادي بسنده واقعة عن الإمام أحمد تؤكد هذا الاتجاه وهي: «أن عبدالرحمن بن صالح الشيعي كان يغشى أحمد بن حنبل فيقربه أحمد ويدنيه فقيل له: يا أبا عبدالله، إنه رافضي فقال: «سبحان الله! رجل أحب قوماً من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلّم) نقول له لا تحبهم: هو ثقة» (تاريخ بغداد 10/ 261). وأصحاب الإمام أحمد كان فيهم الأشعري والمتصوف، ولكن السمة العامة للمذهب هي اعتماد منهج الإمام أحمد والسير عليه في العقيدة والفقه من دون التنازل عن أحدهما، لذلك تأتي تهمة وصف الحنابلة بالتشدد والغلو فيها نوع اختزال لمعارك معينة أهدافها سياسية وتعصبية ورمي المذهب كله بها، والعناية بالعقيدة والزهد في المناصب وممارسة الاحتساب ليس مما يُذم في الشرع أو في الواقع، بل هي منقبة يشرف بها من يتولاها. * كاتب سعودي