لم يكن مُستغرباً بالنسبة لي أن أكتشف من خلال استقصاء بسيط قمت به في الفترة الماضية في حدود دائرة عملي أن ما يقرب من تسعين في المائة من الشباب وخصوصاً الفتيات يجبرهم آباؤهم على اختيار مستقبلهم الدراسي. وأذكر بأن إحدى تلك الحالات كانت فتاة موهوبة موهبة حقيقية في الرسم والفنون، ولكن والدها أجبرها على الالتحاق بكلية العلوم لأنها الأفضل لمصلحتها من وجهة نظره والتي تعثرت فيها جداً وتكرر رسوبها مرات عدة. وعندما سألتُها: ما هو أفضل شيء تحبينه في كلية العلوم؟ قالت: قاعة الرسم التي بجواري!! يعتبرالمستقبل أهم وأخطر ما في حياة الإنسان، فإذا كان الآباء يختارون أهم وأخطر ما في حياة أبنائهم وهو المستقبل، فهم بالتأكيد يتدخلون في جميع تفاصيل حياتهم، وفي كل ما هو أبسط من ذلك، ويقومون بالنيابة عنهم بإدارة شؤون حياتهم، واتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات. ولذلك ليس مستغرباً، أيضاً، أن تجد شاباً في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره، ولا تزال أمه تستذكر له دروسه، أو شاباً في العشرين من عمره ليس لديه أي ملامح واضحة لحلمه الخاص أو هدفه في الحياة، ومن قبل ذلك ليس مستغرباً أن نرى طفلاً اعتمادياً كسولاً ثم مراهقاً مترهلاً أو فارغاً أو عنيداً.. الخيط الذي يجمع كل تلك المشاهد واحد: وهو الوصاية التامة والاختيار بالوكالة، وبالتالي ضعف قدرات الابن على الاختيار أو الاستقلال أو تحمل المسؤولية. الدوافع الشريرة -------------------- قبل أن نتحدث عن علاج هذه الظاهرة، دعونا نسأل السؤال الأهم: لماذا يفعل الآباء هذا؟ لماذا يجرفون شخصيات أبنائهم على هذا النحو؟ ما هي دوافعهم؟ يعتبر هذا السؤال هو مفتاح العلاج، لأننا في حاجة إلى أن نغوص داخل نفوسنا لنتعرف على دوافعنا الحقيقية بعمق، ولا نكتفي بتلقي النصائح الظاهرية العابرة التي لا تصل جذورَ المشكلة. وهذه الدوافع ليست واحدة، فهي متنوعة. فقد تكون الدوافع نفسية، مثل خوف الآباء على الأبناء؛ الخوف من الناس والظروف والمستقبل، وكذلك إحساسهم بقلة خبرة الأبناء التي قد تعرضهم للخطر، وسهولة وقوعهم فريسة للاندفاع أو القرارات غير المدروسة، وأيضاً عدم ثقة الآباء في قدرات أبنائهم أو إيمانهم بشخصيتهم الخاصة، هذا بالإضافة إلى الحب الشديد ورغبة الآباء ألا يحزن الأبناء أو يفشلوا أو يتألموا أو ينجرحوا. هناك نوع آخر من الدوافع، أسميه "الدوافع الشريرة"، حيث يبحث الأب أو الأم عن "مكسب" دون أن يدري من تربيته لأبنائه، وأكرر: دون أن يدري، فهذا يحدث على مستوى "اللاوعي"، ولا يكتشفه إلا أصحاب البصائر اليقظة. وأهم هذه الدوافع الشريرة هي رغبة الآباء في السيطرة والتحكم. إنها متعة كبيرة أن تكون قوياً ومسيطراً ومتحكماً، ويقول لك الجميع "نعم"، خصوصاً إذا كنت في مجتمع مقهور، فأنت تكون في أمس الحاجة إلى أن تعود إلى منزلك فتجد حيوانات أليفة لا تعصي لك أمراً ولا تُجادلك ولا تُجهدك، وتُشعرك، دائماً، أنك أنت الخبير العليم صاحب الحكمة السديدة والخبرة العريضة!! ومن الدوافع الشريرة، أيضاً، أن يكون أبناؤك دون أن تدري هم وسيلتك للتفاخر أمام الناس أو أسلوبك في إغاظة حماتك أو سلفتك، وبالتالي تريد أن تضعهم في "فترينة" حياتك لاستعراض نجاحك في تربيتهم وطاعتهم لك ومستواهم الدراسي المتميز ودخولهم كليات القمة!! وتصل الدوافع الشريرة لأسوأ درجاتها عندما تأخذ صورة نسميها "الاعتمادية المتواطئة"، وذلك عندما يستسلم الأبناء تماماً لسيطرة آبائهم، ويتواطأ الطرفان على ذلك، فيجد الآباء متعتهم في السيطرة، ويجد الأبناء متعتهم في التكاسل والاعتمادية، وهنا تكون الوالدية في غرفة العناية المركزة، ويكون الاستقلال والاختيار والثقة في النفس في ثلاجة الموتى. وأخيراً، هناك نوع ثالث من الدوافع، وهو ببساطة قلة المهارات وقلة المعلومات التي تساعد على غرس الاستقلال، والثقة في النفس والمسؤولية في نفوس الأبناء، مثل مهارات الإقناع والحوار والتفكير والتفويض وغيرها. خطط علاجية --------------------- وإذا كانت هذه هي الدوافع بأنواعها الثلاثة، فإن العلاج يكون بحسب كل نوع. فإذا كانت دوافعك نفسية مثل الخوف والحب الشديد وعدم الإيمان بقدرات الأبناء، أقول لك أن أبناءك لهم قدرات مثلك تماماً وربما أفضل منك، خلقهم الله بها، وأن كل دورك هو إطلاق هذه القدرات وتنميتها. وهذه القدرات لا يبنيها وينميها إلا تحمل المسؤولية. وإن رقابتك ووصايتك الشديدة، إنما ستؤدي إلى تلك النتيجة العكسية وهي: قتل قدرات أبنائك وشخصياتهم الفريدة. وهنا قد نخرج للحظات عن الموضوع لنستحضر مشهداً في الفيلم الكرتوني الشهير "نيمو"، عندما قال الأب: "أنا وعدت ابني ألا يحدث له مكروه أبداً"، فردت عليه الصديقة: "ما هذا الوعد الغريب؟ لا يمكن أبداً منع حدوث أي مكروه !!" وعلى الرغم من بساطة هذه المقولة إلا أن الكثير من الآباء بالفعل، يعتقدون أنهم بإمكانهم منع "المكروه" والحد من "المخاطر". إنه اعتقاد غير سليم ويحتاج بعضَ الخطوات العملية كي يتم تصحيح مساره، الأمر بسيط، ولكنه يحتاج بعضَ المجهود: اسمح لابنك بممارسة أكبر قدر ممكن من الأنشطة لتكتشف مساحات قدراته وقوته. ركز على نقاط القوة وافتح كل السبل التي تنميها أو توظفها. اصنع من نقاط قوته قصص نجاحه، يبني عليها المزيد من النجاح. ألقه في التجربة، دعه يتألم، ولكن قف في ظهره تسنده عند اللزوم. آمن به، وبقدراته، واعلم أنه ليس نموذجاً مكرراً منك، وأن له وجهة مختلفة ينظر بها إلى نفسه وللحياة. ضع بعض الخطوط الحمراء (الأخلاقية مثلاً)، ثم افتح الأبواب لكل ما هو ليس حراماً. الحل مع أصحاب الدوافع الشريرة --------------------------------------- أما أصحاب الدوافع الشريرة فنقول لهم: لقد كانت حياتكم مليئة بالتحديات والمتاعب، وبالتأكيد لديكم أنتم، شخصياً، احتياجاتكم النفسية مثل: التقدير وتحقيق الذات والشعور بالنجاح والفخر، ولكن ليس لابنكم ذنب في هذا، وليس ابنكم وسيلة لإثبات ذواتكم أنتم!! هو لم يطلب منكم أن تنجبوه، بل أنتم الذين فعلتم، فاحموه من أنفسكم قبل كل شيء!! السلطة والسيطرة شهوة كأي شهوة، فقاوموا شهواتكم واتقوا الله. ربما سيؤلمكم أن تفقدوا جزءاً من سيطرتكم على أبنائكم، ولكن هذا أفضل من أن ينفجر ابنكم يوماً ما، فتفقدوا أي قدرة على التأثير فيه، أو على العكس، أن يستسلم لكم تماماً فتجدوا أنكم صنعتم مسخاً مشوهاً. التربية علم -------------- أما النوع الثالث، أولئك الذين يفتقدون المهارات أو المعلومات فأقول لهم، إن التربية علم كأي علم، يحتاج للدراسة وحضور الدورات وقراءة الكتب، فلا تبخلوا على أبنائكم بهذا، فهذه مسؤوليتكم، وهي في رقبتكم أمام الله. ومن بين النصائح المفيدة في هذا المضمار: دربوا أنفسكم على لغة التواصل الإيجابي مع ابنكم والتركيز على الإيجابيات، فإن هذا يغرس الثقة في النفس التي هي بداية كل شيء. وحتى عند التعبير عن العيوب فليكن ذلك بشكل إيجابي "مثال: أنت تحتاج لبذل المزيد من الجهد، بدلاً من : أنت كسول" تقبلوا ابنكم كما هو وآمنوا بفرديته، وشجعوه دائماً، وقارنوه بنفسه وليس بالآخرين. افصلوا بين الطفل وبين أفعاله (عبروا عن رفضكم لبعض السلوكيات وليس للطفل نفسه). افصلوا بين إظهار حبكم له، وبين إظهار اعتراضكم على سلوكه. امنحوه الفرصة، دائماً، للاختيار، وإذا أساء الاختيار فلا تعايروه، بل أثنوا على شجاعته، ولكن اجلسوا في هدوء لتقييم كل تجربة، والتعلم منها والبناء عليها. لا تستخدموا "نعم.. ولكن" فهي تهدم كل شيء. اقرأ عن خصائص المراحل السنية واحتياجاتها. وأخيراً... فلنحذر أن نتحول كآباء وأمهات دون قصد وبصورة لاإرادية إلى سلطويين وديكتاتوريين مع أبناءنا، فحن لا نريد شخصيات ممسوخة أو قدرات ذاتية معطلة، ولا نريد انفجارات نفسية في نفوس أبنائنا أو تمرد تام كرد فعل للتسلط التام، وإنما نريد جيلاً سوياً مبدعاً واثقاً في نفسه قادراً على اتخاذ قراراته.