هل نظرت يومًا في المجتمع من حولنا وتساءلت يائسًا عن تفسير تصرفات بعض الناس من حولك وردود أفعالهم حول ما تراه بدهيات؟! أناس كنت تعتقد فيهم عقلا وشرفًا وعلمًا ثم تجد منهم من يردد ما يردده أنصاف المتعلمين على شاشات التلفاز متجاهلا ما قد خبر من التاريخ، بل ما نشأ عليه من خلق وعقل. وتتساءل أين ذهب عقله وعلمه بل خلقه؟! تابعوا هذا المقال للكاتب أحمد شكري عبر موقع "ساسة بوست": ظهرت هذه الإشكالية عى نحو جلي في أحداث العام المنصرم التي مازلنا نعيش توابعها، بداية من ردود أفعال غير مفهومة من أناس لا أعرف عنهم نفاقًا أو موالسة، إلى من يرى أن هناك من سيقتل ولده لينال التعاطف، وصولًا إلى من يقول أن الفئة التي ينسِب هو إليها قتلَ إخوانه ويتهمها بالكذب في تصريحاتها وقتئذ هي ذاتها الصادقة حين قتلت إخوة له في الوطن على غير مذهبه. وبدا لي أن التفاسير البسيطة لا تروي ظمأ، ووددت لو يتوصل المرء إلى نموذج تفسيري مركب كالذي استخدمه أستاذنا المسيري رحمه الله في تفسير الظواهر الاجتماعية المركبة. وكنت مذ بدأت دراسة الطب أشتم رائحة الفلسفة والأدب في طيات علوم الطب المختلفة خاصة في بعض الأمراض التي لطالما وجدت لها منحىً فلسفيًا ورمزًا أدبيًا اجتماعيًا! ويتميز النموذج التفسيري الطبي في ظني بتركيبيته، فكما طرح المسيري مفهوم النموذج التفسيري متعدد العناصر ذي المقدرة التفسيرية العالية، يسعى الأطباء إلى وضع نموذج تفسيري لأعراض المريض، فإن لم يفسرها سبب واحد فسرتها عدة عناصر ذات ارتباط عضوي توضح الصورة العامة التي تصيب المريض بأعراض متباينة الأماكن، من اضطراب لمعدته إلى آلام عظامه أو صداع رأسه! في مقالنا اليوم سنعرض لبعض الأمراض العصبية التي تصيب عقل الإنسان وإدراكه، والتي أجد في كل مرض منها صورة مصغرة لمرض إدراكي في مجتمعاتنا وكل مجتمع إنساني. Anosognosia عمه العاهة! ------------------------------ أنا لست مريضًا! في هذا المرض – الذي لم يُفهم كنهه حتى الآن بشكل كامل – يغيب عن إدراك المريض وعيه بمرضه! بمعنى أنه ينكر أنه لا يستطيع تحريك ذراعه المشلولة بسبب جلطة في المخ! ويظهر ذلك بشكل خاص في بعض الأمراض النفسية والتي ينكر فيها المريض مرضه بل ويرفض العلاج بشدة لأنه ليس مريضًا كما يرى. وهذا يختلف عن إنكار المرض Denial كأحد أنواع الدفاعات النفسية لرفض الواقع، أما في هذا المرض أو الظاهرة لا يعي المريض بمرضه. يرى نفسه على الحق المطلق صحيحًا وكل من حوله كذابين أو حمقى. ويظهر هذا المرض جليًا في بعض الأمراض النفسية مثل الفصام أو الSchizophrenia (مرض نفسي يصيب إدراك المريض وتفكيره بصور مختلفة منها الهلاوس السمعية أو البصرية) أو الاضطراب ثنائي القطب Bipolar disorder (مرض نفسي يعاني فيه المريض من تأرجح مزاجي بين الاكتئاب الشديد والهوس، وقد يصاحبه أوهام إدراكية عن المحيطين بالمريض). في مثل هذه الأمراض قد يرتكب المصاب بها جريمة قتل يكون ضحاياها – في أوهام ذهنه – جواسيس أو كائنات فضائية! وقد حدث هذا بالفعل في أحد الجرائم الشهيرة بالولايات المتحدة قام بطلها راسل ويستون المصاب بالمرض المذكور بقتل شرطيين معتقدًا – ويا للمفارقة – أنه يحرر العالم من خطر آكلي لحوم البشر! وفي المحاكمة رفض ويستون أن تدفع عنه التهمة تحت دعوى الجنون أو الاضطراب العقلي! فعلى عكس بعض مرضى الفصام الذين قد يشعرون بحاجتهم للمساعدة من طبيب نفسي، يرى هذا المريض نفسه صحيحًا مضحيًا بنفسه إلى عقوبة القتل العمد رافضًا وصفه بالجنون! ويتحدث ويستون نفسه عن الجريمة في هذا الفيديو من الدقيقة 1:30 زاعمًا أنه كان يرصد آكلي لحوم البشر ويوضح وجهة نظره في وجوب قتله لهم! https://www.youtube.com/watch?v=uj6ozlzA45o لا يحتاج هذا المرض إلى وصف ظهور أعراضه على المجتمع! الذي يتجاهل بل ينكر فقره وجهله واعتماده على أعدائه في كل مقومات وجوده! ولايزال يختبئ في صورته عن نفسه أنه كان صحيحًا معافىً. وكذا، من يجادل في حقائق تاريخية لم يقرأ عنها شيئًا ولكن لسبب أو لآخر يرى نفسه عالمًا بها ذا عقل محيط بعناصر إدراكها وتحليلها. لا يرى عاهته ونقصه! Neglect syndrome ------------------------- لم أجد ترجمة عربية لاسم هذا المرض، وإن كانت الترجمة الحرفية من اسمه الإنجليزي أنه متلازمة التجاهل! ولعل التسمية الأدق ستكون "متلازمة الغفلة". يستيقظ المريض به صباحًا يمشط رأسه ويحلق لحيته، عفوًا بل يمشط نصف رأسه الأيمن فقط تاركًا النصف الثاني أشعث! ويحلق نصف لحيته الأيمن أيضًا. حين تختبر مريض ال Neglect تطلب منه أن يرسم ساعة حائط دائرية، أو تضع له صورة مرسومة لها تطلب منه أن ينقلها. فتجد أنه إما أن ينقل نصف الساعة فقط! أو أن يضع كامل الأرقام في النصف الأيمن من الدائرة كما هو ظاهر في الصور أدناه. مريض الNeglect لا يدرك نصف العالم الأيسر! ليست المشكلة في الرؤية، فمن يصاب بجلطة في جزء معين من مسار الأعصاب البصرية قد يفقد مجال الإبصار الأيمن أو الأيسر، ويكون واعيًا أنه قد فقد جزءًا من مجال إبصاره بالفعل، أما مريض ال Neglect فهو لا يدرك هذا الجانب من العالم مع عدم إصابة عينه أو جهاز الإبصار لديه. وهذا المريض لا يدرك الأصوات التي تأتيه عن يساره ولا يشعر بالأشخاص عن يساره، ولا يلتفت إلا إلى يمينه! وأقصى ما لديه أن ينظر أمامه، أما العالم عن يساره فهو غير موجود. يصف أقارب بعض مرضى ال Neglect ما يرونه من أعراض ذويهم في هذا الفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=d4FhZs-m7hA كان مرض الNeglect من أوائل ما أثار لديّ الفضول لدراسة الأمراض العصبية الإدراكية أو المعرفية. فقد وجدت فيه نظرة الاستعمار لنا وفيه نظرة حاكم لفئات من محكوميه. وفيه نظرة طبقة لطبقات أخرى، وأساتذة لطلبة، وشعب لشعب. وإمعانًا في الفلسفة الناضحة عن الطب يوجد نوع من ال Neglect يختص بالقراءة!! كأنه وجد لوصف فئات معينة، يقرأ المريض فلا يدرك نصف الصفحة! ويسمى ذلك بال Neglect dyslexiaإما ألا يدرك إلا النصف الأيمن للجملة المكتوبة تاركًا النصف الأيسر، أو في بعض الحالات يقرأ نصف الكلمة فقط! أو بعض حروفها غير مدرك للباقي! من ذلك من يدلس في نقل من كتب للانتقاص من فقيه أو عالم محتجًا بكلام المترجِمُ الثقة في حق المُترجَم له (من باب لا تقربوا الصلاة، أو فويلٌ للمصلين). فأرى كثيرًا ممن يحاولون النيل من شيخ الإسلام ابن تيمية عن طريق النقل من بعض ما أورده الحافظ ابن حجر عنه في سياق ترجمته له في كتابه "الدرر الكامنة"، متجاهلين ما أورده ابن حجر نفسه عن الإمام العارف ابن عطاء الله السكندري في نفس الكتاب، رضي الله عن الجميع. وكذا من يحتج بكلام الإمام الحافظ الذهبي في جانب من العقيدة ويتجاهل ذكره أنه لبس خرقة التصوف في ثلاثة كتب من كتبه! أو نقلهم تكفير العلاء بن البخاري لابن تيمية متجاهلين تكفيره أيضًا لابن عربي! هذا المرض – ال neglect وال Neglect dyslexia – هذه الغفلة – غير الواعية في أحيان، والواعية في أحيان أخرى – أحد أهم أمراض من ينتسبون إلى العلم في هذا الزمان!! Dementia ------------- وبرغم افتراضنا أن العمر لابد وأن يعني الحكمة فإن من الأمراض العصبية الإدراكية ما قد يؤدي إلى غير ذلك. نتكلم هنا عن العته أو الخرف وأخص بالذكر أحد أنواعها وهو الSenile Dementia أو ما يعرف ب"عته" أو خرف الشيخوخة. وهو ما يصيب عددًا غير قليل من الطاعنين في السن خاصة من له حياة رتيبة لا جهد عقلي فيها وطعام يرسب الدهون في الأوعية الدموية الهرمة فتزداد تصلبًا ويزداد المخ معها حرجًا! طال عليه الأمد فتصلبت أوعيته الدموية في جميع أركان جسده وقسى قلبه (بمعنى عقله كما يأتي في القرآن بشكل متكرر). يفقد المُبتلى بهذا المرض جانبًا من قدراته العقلية وذاكرته بالتدريج. يفقد القدرة على إجراء العمليات الحسابية البسيطة، ينسى كثيرًا من ذكرياته القديمة (وذلك بخلاف مرض ألزهايمر الشهير Alzheimer والذي يفقد صاحبه الأحداث الأقرب فالأبعد). ينسى مريض خرف الشيخوخة كثيرًا من خبراته ونتاج تجاربه، فنراه يقع في بعض الأخطاء التي عانى منها طوال حياته. كاستخدام بعض الآلات المنزلية بشكل قد يؤذيه، أو نزوله في صفوف طويلة ليدلي بصوته في عملية إعادة إفراز تجربة لطالما شكى من ظلمها حين كان شابًا، ولطالما وصف الداعين إلى مثلها قديمًا بأنهم خدعوه وأودوا بالبلاد – وقتئذ – إلى التهلكة. وأخيرًا يأتي مرض يستمد اسمه من أقسى التجارب الاجتماعية على الفرد: "Locked in syndrome" أو متلازمة المُنحبس! كما تترجمها بعض المراجع العربية وأفضل ترجمتها إلى متلازمة السجين أو الحبيس. ومن أصول الاسم أو دلالاته، السفينة يحيطها الثلج من كل جانب فلا تستطيع حراكًا. يراك ويسمعك ويفهمك تمامًا لكنه حبيس وراء القضبان مكمم الفم مكبل الأطراف. لا يتحرك منه إلا عيناه! مصاب بشلل أصاب تقريبا جميع عضلات جسمه الإرادية إلا عضلات عينه. إنسان قد يكون بكامل الوعي حبيس جسد أشل. يعامله من حوله على أنه في غيبوبة أو ما يشبهها، يعاملونه أحيانا على أنه نائم أو غائب أو لعله متوفى. مريض متلازمة المنحبس يستطيع التواصل مع من حوله من خلال حركة عينه بأن يتدرب على أن يجيب بنعم بأن يغمض عينيه مرة واحدة، وأن يجيب بلا بأن يغمض عينيه مرتين متتاليتين! وقد آل إلى هذه الحالة الفيزيائي العملاق ستيفن هوكنج بعد أن أجهز عليه مرض ال ALS أو التصلب الجانبي الضموري (والذي يثار حوله هذه الأيام تحدي دلو الثلج!) الذي يصيب الأعصاب الحركية واحدًا تلو الآخر عبر السنوات حتى يجهز على أي عصب يوصل إلى حركة عضلة بشكل إرادي. ويقود إلى هذه الحالة أمراضٌ عدة أهمها إصابات المخ العنيفة الناتجة عن الحوادث. وأما الدلالة الاجتماعية وإسقاطاتها فتحتاج إلى إفراد مقال لها، ولعل بعضها قد اتضح في ذهن القارئ. ويختم الكاتب مقاله قائلا: حاولنا في هذا المقال أن نشخص الأمراض العصبية الإدراكية في الجسد الاجتماعي، لعل ذلك يكون السبب فيما لا نفهم ولا نجد له سببًا منطقيًا. فهل يقترب الحل الطبي من تشخيص آفات المجتمع وأمراضه باعتباره تجلٍ لتناقضات الإنسان وإمكاناته وضعفه وأخلاقه؟