قال القضاء السعودي كلمته، بقوة ووضوح، ضدّ وزارة العدل ممثلة في كتابة عدل الخبر، حاكماً عليها للمرة الثانية بتعويض مواطنٍ مالياً ودفع 410 آلاف ريال له، إنهاءً لأضرارٍ لحقت به جرّاء سلسلة أخطاء إجرائية في إفراغ صكّ أرض مشبوه. وبحسب صحيفة "الشرق"، أصدرت الدائرة الإدارية الثانية بالدمام حُكمها الذي حمل الرقم 76/د/إ/2/3 لعام 1435، تأكيداً لحكمها السابق الذي حمل الرقم 137/د/إ/2/3 لعام 1434ه، مُنهيةً بالحُكمين ستّ سنوات من الجولات القضائية بين المواطن محمد عبدالله القحطاني وكتابة عدل الخبر، التي أفرغت له صكّ أرضٍ اشتراها بحرّ ماله، في مخطط العزيزية عام 1419ه، قبل أن يكتشف بعد 10 سنواتٍ أن الصكّ الذي يحمله ليس إلا ورقةً مجمّدة بما فيها، نتيجة قرار من وزارة العدل شمل قائمة صكوك منح ملكية امتدّت إليها أيدي مزورين في كتابة العدل، وصدرت بحقهم عقوبات جنائية وإدارية. منحة ضائعة -------------- قصة المواطن محمد القحطاني سبق أن نشرت «الشرق» تفاصيلها في أكتوبر 2012، مُستقصيةً جذورها التي تعود إلى عام 1405ه، وبدأت بطلب مواطن يقطن العاصمة الرياض اسمه سعيد عبدالله القحطاني منحة أرضٍ من الملك فهد -رحمه الله- وبالفعل؛ صدرت الموافقة وأحيلت المعاملة إلى أمانة الدمام (حسب اسمها السابق) التي أحالت أوراق المنحة إلى كتابة عدل الخبر في شهر صفر 1413ه. لكنّ المواطن الممنوح لم يكن يعرف شيئاً عما تمّ في الإجراءات. وبعد 12 سنة وتحديداً في 1/6/1425 بيعت الأرض لمواطن آخر. وبعدها بيومين فقط بيعت مجدداً إلى مواطن ثالث. وبقيت في ملكيّته 55 يوماً، ليبيعها لمواطن رابع هو محمد القحطاني، صاحب القضية، بتاريخ 28/7/1425ه. وجميع عمليات الإفراغ السابقة أمضاها كاتب العدل نفسه، باستثناء الإفراغ الأخير الذي تسلّم صكه محمد القحطاني، وأبقى صك الأرض في ملكيته حتى عام 1429. وحين شرع في بيعها؛ أبلغته كتابة عدل الخبر الأولى بأن الصكّ موقوف بسبب وقوع تزوير متعمّد في الإجراء الأول الذي تمّ في صفر 1413. قحطاني وقحطاني ------------------- المواطن صاحب المنحة لم يتسلّم الأرض ولا الصك أصلاً، ولم يبع الأرض أصلاً، ولم يوكّل أحداً ببيعها.. والأكثر دهشة ومفاجأة؛ هو أنه لم يكن يعلم بأنه مُنح الأرض أصلاً..! وخلاصة هذه القصة هي أن الأرض يملكها مواطنٌ اسمه سعيد عبدالله القحطاني، وهو يقيم في العاصمة الرياض. في حين يحمل صكها مواطن آخر اسمه محمد عبدالله القحطاني. ومثلما تشابه الاسمان؛ تشابه الضرر أيضاً. وكلاهما يملك حقاً في الأرض. الأول منحة من المقام السامي، والآخر شراءً بحرّ ماله. سعيد.. وسعد ----------- الوثائق التي اطلعت «الشرق» عليها تشير إلى وجود خطأ غامض مرّ بصمت في الإجراءات الأولى، التي تمّت في كتابة العدل. فالمواطن الذي قال الصك إنه «حضر لدى كاتب العدل» بتاريخ 1413/2/17 اسمه «سعد». لكن صاحب المنحة اسمه «سعيد». وما يؤكد وجود الخطأ هو أن باقي بيانات «سعيد» المدنية هي نفسها المسجلة باسم «سعد». وحين تقصّت «الشرق» الوثائق الأخرى؛ تبيّن أن اسم «سعيد» ورد في جدول ضم أسماء 387 مواطناً. وبقي الاسم نفسه في استمارة أمانة الدمام (الشرقية حالياً) المعدّة في إدارة الأراضي والمساحة. كما بقي في خطاب الأمانة الموجه لكتابة عدل الخبر الأولى بتاريخ 1413/2/12. لكنه تحوّل بعد خمسة أيام إلى «سعد» في الصك. وهذا الخطأ لم يقع في الصك فحسب، بل في دفتر الضبط الموثق في صفحة 277 من الصحيفة، التي تحمل الرقم 100. وهذا الخطأ أكده حكم المحكمة الإدارية، الذي نقل عن ممثل كتابة عدل الخبر قوله «حصل خطأ قلمي حين استخراج الصك، حيث كتب سعد بدلاً عن سعيد». إجراءات لاحقة ---------------- وقد تضاعف غموض هذا الخطأ في الإجراءات اللاحقة. فمثلما قال الصكّ إن «سعد» حضر لدى كاتب العدل مع مندوب بلدية الخبر بتاريخ 1413/2/17؛ ذكر دفتر الضبط الذي حصلت «الشرق» على صورة من الصفحة التي وثقت المبايعة؛ أن مواطناً آخر حضر بوصفه وكيلاً شرعياً عن «سعد»، لا «سعيد». وهذا ما يُشير إلى أن الخطأ تمّ بقصد التزوير. وزعم التزوير هذا أكدته المحكمة الإدارية، لاحقاً، حين بدأت النظر في القضية وتأكد لها عدم وجود صكّ وكالة أصلاً. وأكد الحكم الأخير «تزوير الوكالة» التي بموجبها تمّ إفراغ الصكّ في البداية للمواطن سعيد القحطاني، بل أكد الصك أيضاً «عدم وجود وكالة منه فعلياً». أمر لم يحدث ------------ وطبقاً للصك الأخير؛ فإن كتابة عدل الخبر التي وصفها الصك ب «المدّعى عليها لم تتحرّ الدقة في عملها وقامت بالإفراغ أول مرة دون حضور المواطن الممنوح، مخالفة بذلك ما أثبتته في سجل ضبط التقارير الصادرة من البلديات، وكذلك صك الملكية». وتوقفت حيثيات الحكم عند صك الأرض الذي ورد فيه قول كتابة العدل «سُلمت الأرض المحدودة أعلاه للمذكور خالية غير مشغولة» وكذلك نصّها «وتمّ الإقرار بحضور شاهدي الحال... ووقّع الجميع»، ووصفت الحيثيات ذلك بأنه «إثبات لأمر لم يحدث في الواقع، حيث لم يحضر الممنوح له ولا وكيله، وهو ولا شك تغيير للحقيقة الواجب إثباتها». واعتبرت المحكمة الإدارية ذلك «خرقاً للغاية التي أنشئ المرفق لأجلها»، والمعني بكلمة «المرفق» هو كتابة العدل المدّعى عليها في القضية. خطأ تأسيس ------------ ووصفت المحكمة الإدارية ذلك بأنه «الخطأ الذي أسّس ومهّد لوجود الثغرات والأخطاء التي تتابعت من بعده». وحدّدت المحكمة مسؤولية الأخطاء بدقة، مشيرة إلى «خطأ مرفقي» تتحمّله كتابة العدل، و «خطأ شخصي» يتحمّله الموظفون المتورطون في جريمة التزوير. مسؤولية مباشرة -------------- واستناداً إلى الوقائع والأسباب، التي تناولتها الدائرة الثانية عبر رئيسها وأمينها وعضوين؛ خلص النظر في القضية إلى وجود مسؤولية مباشرة تقع على عاتق كتابة العدل، تمثل في «إهمال التثبّت من استلام صاحب العلاقة أو وكيله للصك وإثبات توقيعه على ذلك»، واصفة الخطأ بأنه مخالفة للائحة التنفيذية لاختصاص كتّاب العدل الصادر منذ عام 1425ه. وقررت أن «المدّعي يستحق التعويض الجابر عما لحقه من أضرار». قيمة التعويض -------------- وحول تقدير قيمة التعويض؛ استندت المحكمة الإدارية إلى تقدير هيئة النظر بالمحكمة العامة في الخبر، التي قدّرت القيمة ب 400 ألف ريال، وأرفقت تقارير ثلاثة مكاتب عقارية قدّرت القيمة بين 400 ألف و420 ألفاً. وتوصلت المحكمة الإدارية إلى أن التعويض هو 410 آلاف ريال. وخلص الحكم إلى «إلزام كتابة عدل الخبر بأن تدفع للمدعي محمد بن عبدالله بن فهيد القحطاني مبلغاً وقدره 410 آلاف ريال، لما هو موضّح بالأسباب». صدر الحكم الأول من الدائرة الثانية في 27 من شهر شوال من العام الماضي، وتمّ رفعه إلى محكمة الاستئناف التي طلبت إعادة النظر، وقد أعادت الدائرة النظر في القضية وخلصت إلى الحكم ذاته الذي خلصت إليه في الحكم الأول. ومن جهته، قال القحطاني إن الحكمين دليل على نزاهة القضاء السعودي، وقد بدأتُ قضيتي واثقاً في ذلك، مشيراً إلى ستّ سنوات من متابعة القضية في القضاء الإداري.