عراك قانوني ساخن بين محامي الطرفين انتهى باصدار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمها النهائي، في الرابع عشر من يناير الحالي، في الاستئناف المقدم من أربعة بريطانيين، وهي القضية المسجلة باسم "جونز وآخرون"، حيث قضت المحكمة برفض الدعوى المقامة من المدَّعين في القضيتين المرفوعتين ضد حكومة المملكة وضد الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، ومسئولين سعوديين آخرين، حيث أيدت الحكم الصادر من مجلس اللوردات البريطاني "المحكمة العليا في إنجلترا- أعلى سلطة قضائية". المحامي الدكتور سعود العماري، الذي قاد فريق الدفاع السعودي، أوضح في حوار مع «اليوم» أن كسب القضية يعد إنجازاً ومكسباً للمملكة، وجاء لينهي دعاوى استمرت لمدة تزيد على عشر سنوات، وكان هدف المدعين منها الحصول على تعويضات مالية باهظة بناءً على مزاعم ليس لها أساس، كما أن صدور الحكم يؤكد سلامة موقف المملكة ويعزز موقفها القانوني تجاه أية قضايا مماثلة مستقبلاً. كانت تلك مقدمة الحوار الذي نشر على موقع صحيفة "اليوم"، وفيما يلي نص الحوار : بداية القضية ------------- اليوم: كيف تطورت هذه القضية منذ بدايتها؟ العماري: تعود أحداث هذه القضية إلى عام 2000، ومطلع 2001م، إثر الأحداث المأساوية التي شهدتها المملكة وما وقع من أعمال إرهابية وتفجيرات بالعاصمة الرياض ومدينة الخبر، استهدفت أمن وسلامة الوطن، وكانت تلك التفجيرات مرتبطة بشبكة تهريب عالمية، حيث إن قوات الأمن في المملكة تمكنت من القبض على المتهمين الذين قاموا بتلك التفجيرات التي أدت إلى مقتل بريطاني وعدد من الجرحى، وقد مثل المتهمون "رونالدو جونز، وألكسندر ميتشل، ووليام سامبسون، ويزلي ووكر" أمام الجهات القضائية في المملكة العربية السعودية التي منحتهم حقهم المشروع في الدفاع عن أنفسهم، حيث قام بتمثيلهم فريق قانوني متخصص أثناء إجراءات التحقيق وأثناء المحاكمة، وبعد أن تمت إدانة المتهمين بما نسب إليهم من خلال المحاكمة العادلة تدخلت الحكومة البريطانية، وطلبت من حكومة المملكة العفو عنهم وإعادتهم إلى بلادهم، فاستجابت حكومة المملكة لتلك المطالب بعد أن قدم المتهمون اعتذاراتهم لحكومة المملكة العربية السعودية عما ارتكبوه من جرم وعن ما تسببوا به من إزعاج للبلاد والمواطنين، وقد أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله أمراً بالعفو عن المتهمين تأكيداً على روح التسامح التي يتسم بها أولو الأمر من القائمين على رعاية شئون المملكة، وحرصهم الدائم على إظهار الجوانب المشرقة للشريعة الإسلامية السمحة، خصوصاً في الجوانب الإنسانية، وتأكيداً على أن العفو عند المقدرة من صفة الكرام. لكن من المؤسف حقاً أن المذكورين وبعد عودتهم إلى بلادهم تناسوا هذا الموقف النبيل من المملكة، وقاموا برفع دعاوى أمام المحاكم البريطانية في لندن في يونيو من عام 2002م ضد المملكة العربية السعودية وضد وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، وبعض المسئولين، وقد تضمنت تلك الدعاوى مزاعم بتعرضهم للتعذيب وغيرها من الادعاءات الباطلة، وقد دفع الجانب السعودي بأن المملكة العربية السعودية ومسئوليها يتمتعون بالحصانة السيادية للدولة (State immunity) وفقاً للقوانين الانجليزية وقواعد القانون الدولي العام، وقد قضت المحكمة برد تلك الدعاوى استناداً إلى القوانين المشار إليها أعلاه. حكم ابتدائي ----------- اليوم: ماذا حدث بعد صدور الحكم الابتدائي لصالح الجانب السعودي في هاتين القضيتين؟ العماري: بعد صدور الحكم الابتدائي لصالح الجانب السعودي في تلك الدعاوى قام المدَّعون بتقديم استئناف إلى محكمة الاستئناف في لندن التي أيدت الحكم الصادر لصالح المملكة، ونقضت الحكم الصادر للأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، وبعض مسئولي الوزارة، ثم قام الجانب السعودي باستئناف الحكم الذي صدر ضد سمو وزير الداخلية والمسئولين الآخرين، واستأنف المدعون كذلك الحكم الذي صدر لصالح المملكة. اليوم: ماذا كانت مجريات الدعوى في مجلس اللوردات؟ العماري: بعد عدة جولات من المداولات أصدر مجلس اللوردات في شهر إبريل لعام 2006 حكماً بالإجماع بتمتع المملكة ومسئوليها بالحصانة السيادية للدولة ورفض دعاوى المدعين، عندها استأنف المدعون الحكمين الصادرين ضدهما من مجلس اللوردات أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، مؤسسين استئنافهما على مزاعم مخالفة هذين الحكمين للحقوق المكفولة لهم بموجب المادة السادسة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان. الاسانيد القانونية ---------------- اليوم: ما الأسانيد القانونية التي بُني عليها حكم المحكمة؟ العماري: مجلس اللوردات استند في حكمه إلى قانون الحصانة للدول ذات السيادة State immunity الذي يمنع مقاضاة الدول وفقاً لأحكام القانون الانجليزي (وقوانين الدول الأوروبية وقواعد القانون الدولي العام) التي تؤكد على أن التصرفات الصادرة من دولة ذات سيادة لا يجوز أن تكون عرضة للمقاضاة، والحكم عليها في محاكم دولة أخرى ذات سيادة. وفي هذا الخصوص أكد مجلس اللوردات أن حصانة الدولة أمر لا يمكن التشكيك فيه وكذلك حصانة مسئولي الدولة. وهنا لابد من الإشادة بالقضاء البريطاني الذي نظر في هاتين القضيتين بشكل مهني ومتجرد دون الاهتمام بجنسية المتقاضين وطبق القوانين ذات الصلة للوصول إلى العدالة في دولة القانون. اليوم: كيف وصلت الدعاوى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؟ العماري: قام المدعون بالاستئناف أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بزعم حرمانهم من الوصول إلى العدالة التي ينشدونها بموجب المادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وبعد تقديم أطراف النزاع مذكرات الاستئناف والأدلة الداعمة لمواقفهم، وبعد مداولات المحكمة، والنظر في المواقف التي استند إليها الأطراف، أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكماً بتاريخ 14/1/2014م بتأييد الحكم الصادر عن مجلس اللوردات في عام 2006م، والقاضي بعدم أحقية المدعين في تلك الدعاوى ضد حكومة المملكة وضد صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، والمسئولين السعوديين الآخرين، حيث حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالأغلبية الساحقة (1/6) تغليب مبدأ حصانة الدولة وفقاً للأسانيد والأسباب الواردة في الحكم وأيدت الحكمين الصادرين لصالح الجانب السعودي. المحكمة الاوربية ----------------- اليوم: هل يجوز للأفراد البريطانيين الاستئناف أمام المحكمة الأوروبية على حكم صدر في بلادهم؟ العماري: عرض القضية على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هو أمر متاح للمدعين لكون المملكة المتحدة عضوا في الاتحاد الأوروبي، ويمكن للأشخاص الذين يرون أنهم كانوا ضحايا لانتهاك حقوقهم الإنسانية أن يتقدموا باستئناف لتلك المحكمة متى ما استنفدوا الإجراءات القضائية المحلية في بلادهم. وجدير بالذكر أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يترأسها فريق من القضاة من أوروبا كلها للنظر في أي استئناف مقدم من أفراد من الدول الأعضاء، ولقبول الاستئناف فلا بد من تقديمه خلال ستة أشهر من صدور الحكم النهائي من أعلى محكمة في الدولة. وفي هاتين القضيتين طالب المدعون المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتأييد مزاعمهم ضد بلادهم المملكة المتحدة واستندوا على المادة السادسة من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية كما أشير آنفا، وبالمناسبة فهناك أصوات كثيرة في بريطانيا تطالب بالانسحاب من هذه المعاهدة، لأن أحكام المحكمة الأوروبية –كما يرون– تشكل تعدياً على سيادة بلادهم. ولو صدر حكم من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لصالح المدعين لأعيدت القضية إلى المحاكم الابتدائية في لندن لسماعها ضد المدعى عليهم. أبعاد أخرى ----------- اليوم: بعد صدور هذا الحكم النهائي هل هناك أبعاد أخرى لهذا الحكم؟ العماري: بإغلاق ملف هاتين القضيتين نهائياً، بعد استنفاد المعفو عنهم جميع درجات التقاضي، فإن هذا الحكم يعمل على تحقيق الهدف المنشود، وهو حماية مصالح المملكة ومسئوليها، والذود والحفاظ على مكانتها في المجتمع الدولي، بفضل التوجيهات السديدة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله، وكذلك بجهود أبناء الوطن المخلصين في السفارة السعودية في لندن، وعلى رأسهم الأمير محمد بن نواف بن عبدالعزيز آل سعود سفير خادم الحرمين الشريفين في المملكة المتحدة، الذي يعمل وفقاً للتعليمات والمتابعة المتواصلة من الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية، والذي بدوره يؤكد دائماً حرص المملكة على تعزيز علاقاتها مع المملكة المتحدة في جميع المجالات. وأؤكد هنا أن صدور هذا الحكم من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد جاء لينهي عراكاً قضائياً استمر لمدة تزيد على عشر سنوات، وكان هدف المدعين منها الحصول على تعويضات مالية باهظة، بناءً على مزاعم ليس لها أساس. كما أن صدور هذا الحكم يؤكد على سلامة الأسانيد التي دفعت بها المملكة ويعزز موقفها القانوني للتصدي في أي دعاوى مشابهة، باعتباره سابقة قضائية ملزمة، يبنى عليها في أي دعوى مشابهة في المستقبل، ولا يقل أهمية عن ذلك كون هذا الحكم النهائي يؤكد موقف المنظومة الأمنية في بلادنا، وعلى رأسها درع الوطن الواقي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه الذي شرف المملكة بمواقفه في حياته، وازدادت المملكة شرفاً بتأكيد سلامة موقفه القانوني بعد مماته رحمه الله فطاب حياً وطاب ذكره ميتاً. وبهذه المناسبة فإنني أهنئ الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود وزير الداخلية وفريق الوزارة الذي شارك بقيادة سموه على تحقيق هذا الإنجاز المهم بعد أن تشرفت بالإشراف على فريق الدفاع وتكللت الجهود بهذا النجاح المشرف، والحمد لله. سعود بن عبدالله العماري درس القانون في الولاياتالمتحدة -تكساس- جامعة هارفارد. عمل مستشاراً قانونياً عاماً في شركة أرامكو السعودية، ومستشاراً لمعالي وزير البترول، ومديراً عاماً للإدارة القانونية في وزارة البترول والثروة المعدنية لمدة ثماني سنوات. رئيس رابطة خريجي هارفارد في المملكة. أحد مؤسسي مركز الدراسات الإسلامية كلية الحقوق- جامعة هارفارد. تولى الإشراف على سبع قضايا سيادية، انتهت لصالح المملكة. ترأس فريق الدفاع في منظمة أوبك لمدة أربع سنوات. عضو مجلس الأمناء في أكاديمية الملك فهد في لندن. منحه خادم الحرمين الشريفين وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في عام 2001م.