يستطيع محمد قويدر تعليق رجل بسلاسل معدنية، وإرسال صدمات كهربائية من خلال جسده وضربه على أخمص قدميه حتى ينتفخ مثل البالونات. في بعض النواحي، في ذلك شيء من العدل، لأن هذه هي بالضبط الأشياء التي مورست بحقه على يد الرجل في الخلية 6 في سجن الحدباء في العاصمة الليبية طرابلس. ووفقا لموقع إيلاف اللندني اعتقل قويدر (48 عاماً) لمدة 11 عامًا بسبب معتقداته الدينية ولمحاولة قلب نظام الحكم. ويضم السجن الآن رئيس وزراء سابقاً، و14 شخصاً برتبة عقيد في جهاز الاستخبارات، وعشرات من حراس السجن والبلطجية، إلى جانب "حمسة"، المعذب السابق. لكن قويدر لا يريد تعذيب الرجل. بدلاً من ذلك، يقول إنه يريد التحدث إليه فهو يسعى إلى الإجابة على سؤال لازمه كل هذه السنوات: لماذا قتل أكثر من 1200 شخص في مذبحة سجن أبو سليم في عام 1996؟، لماذا اضطر عدد كبير من السجناء الآخرين أن يعانوا؟، لماذا كان هناك الكثير من الكراهية؟. تحدث قويدر مع معذبه للمرة الأولى في شباط/ فبراير الماضي. لقاء الجلاد وضحيته، الذي شاء القدر أن يعمل حالياً مديراً في سجن الحدباء. المحادثة الأولى كانت قصيرة: "هل تذكر؟"، سأل قويدر معذبه حمسة، فرد الأخير بهز رأسه. كشف قويدر عن ساعديه لتظهر عليهما آثار التعذيب، فأخفض حمسة نظره بخجل. انخفض قويدر على ركبتيه، ثم انحنى إلى الأمام، ورفع يديه وراء ظهره، ثم وقف على رؤوس أصابعه، وقال: "هذا ما فعلته بي. كنت معلقاً هكذا لمدة 10 أيام". نظر حمسة إلى معصمي قويدر المحاطين بخط مستقيم، وكأن أحدهم حاول قطعهما، وقال: "كنت أعرف أنك ستعود ورائي لتنتقم مني في يوم من الأيام"، وأجهش بالبكاء. عندما يصبح السجناء حراسًا في سجنهم إنها تجربة فريدة من نوعها، لا تحكمها قواعد، وتدور أحداثها في سجن الحدباء، حيث تحول السجناء إلى حراس السجن والحراس إلى سجناء. الأمر الوحيد المشترك بينهم هو أبو سالم، أعتى سجن سياسي في طرابلس، مركز الخوف في عهد الديكتاتور معمّر القذافي، وحيث تعرّض الآلاف للتعذيب. في عام 1996، تم إعدام نحو 1200 سجين، في عقاب وحشي لأعمال الشغب التي نفذوها ضد الظروف غير الإنسانية في السجون. تبادل الأدوار الغريب هذا لا يحدث فقط في سجن الحدباء، بل في كل أنحاء البلاد التي تعاني فراغًا قانونيًا ومؤسسيًا. قبض الثوار على أكثر من 7 آلاف شخص، ولا يزال العديد منهم محتجزين في سجون سرية، ومن ضمنهم سيف الإسلام القذافي، الذي سيتم تقديمه إلى المحاكمة في مدينة الزنتان في ليبيا خلال أيلول/سبتمبر الجاري. وعلى الرغم من شهرة بعض السجناء، إلا أن معظمهم كانوا مجرد مجرمين صغار في عجلة كبيرة من الدكتاتورية: مخبرون وقتلة، جلادون ومرتزقة. لكنهم الآن في أيدي أولئك المظلومين الذين حاربوا لإسقاط النظام. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: "ماذا سيحدث لهم؟". البعض يريد الانتقام، والبعض الآخر يريد الغفران، والجميع يريد العدالة. لكن كيف يمكن تحقيق المصالحة في الأمة التي عانت الكثير؟. قد يكون السجن أفضل مكان للبدء بالبحث عن أجوبة. الجرائم الوحشية في سجن أبو سليم هي أعمق جرح في الذاكرة الجماعية لليبيين. إنها الدرك الأسفل الذي وصل إليه القذافي، مثال واضح على وحشية النظام وبداية نهايته. كان العديد من الناجين من ضحايا السجن يحتجون في بنغازي كل يوم سبت منذ العام 2007. ثم ألقي القبض على فتحي تربيل، وهو محامٍ يمثل أسر الضحايا يوم 15 شباط/فبراير 2011. في اليوم التالي، خرج آلاف إلى الشوارع للمطالبة بالإفراج عنه، فكانت بداية الثورة، التي انتهت عندما سحب الثوار الديكتاتور السابق من أحد المواسير الاسمنتية، فأصبح قويدر مدير السجن الذي كان يقبع خلف قضبانه. لا شيء سوى الذكريات شارك نحو 300 رجل في مذبحة أبو سليم. اعتقل نحو 100 منهم في سجن الحدباء. وتحول 20 رجلاً من السجناء السابقين في أبو سليم إلى محققين سجلوا اعترافات الذين قاموا بتعذيبهم، وسمحوا للضحايا بمواجهة الجناة وإعادة بناء مسرح المجزرة. وفقاً للسجلات، أعطى رئيس المخابرات السابق عبد الله السنوسي وابن عم القذافي، منصور ضو الأوامر بتنفيذ المجزرة. وقد فرّ السنوسي إلى موريتانيا، بينما اعتقل ضو في مصراتة. توفي 1270 سجيناً من أصل 1700 في السجن، من بينهم 120 مريضاً. قبل أن يفارقوا الحياة، اقتيد السجناء إلى الباحة الأمامية حيث تعرّضوا لمدة ساعتين، لنيران الحراس الذين صوّبوا بندقياتهم نحوهم من السقف. ثم تم نقل الجثث إلى خندق البناء في اليوم التالي. بعد أربع سنوات، تم حفر المقبرة الجماعية، وحاول المسؤولون التخلص من الجثث نهائياً بوساطة المواد الكيميائية وطحن العظام بكسارة الحصى. في نهاية المطاف، أحرقوا الجثث، وألقوا الرماد في البحر. لم يعد هناك أي دليل. مجرد ذكريات، وبعض الحراس السابقين، مثل حمسة، الذي يشعر بالندم، إنما ليس بالذنب. عند لقائه الأول بقويدر، قال حمسة: "أردت أن أموت قبل أن أنظر إليه". وعلى الرغم من أنه أصبح هزيلاً وضعيف الحال، لكن من الواضح أنه كان قاسياً وقوي البنية. "هل أستطيع إحصاء عدد الأشخاص الذين قتلتهم؟" يجلس حمسة على كرسي أمام قويدر وصديقة خليل (40 عاماً) الذي كان عاملاً في صناعة المفروشات قبل الثورة. وقال حمسة: "أنا كنت واحداً من حراس السجن الذين شاركوا في أحداث سجن أبو سليم. كما شاركت في إطلاق النار على السجناء بأوامر من عبد الله السنوسي ومدير السجن. لا أعرف كم من الناس قتلت. أعطونا الأسلحة وقالوا: أطلقوا النار". ورداً على سؤال عما إذا عذّب سجناء في السابق، قال حمسة: "حاولت دائماً أن أكون لطيفاً"، بابتسامة أحرقت وجه قويدر الذي حاول ألا ينفعل. وأضاف حمسة: "لم أكن سيئاً. وأنا لا أتذكر أنني قمت بتعذيب أي سجين، لكن إذا فعلت، فأنا آسف". يشرب قويدر كوباً من الماء محاولاً ابتلاع غضبه، ثم ينفجر: "أنا أغفر لك". ترضى الضحية ولا يرضى الجلاد واحدة من مفارقات الحياة هي أن أولئك الذين عانوا أكثر من غيرهم هم الأكثر استعداداً من غيرهم للمغفرة. لكن خليل لا يريد أن ينسى. قلبه يمتلىء بالغضب من الرجال الذين قتلوا اثنين من أشقائه في سجن أبو سليم. كان عليه أن يخفي غضبه لسنوات عديدة، لأن حتى ذكر المجزرة كان خطراً على حياته. "نعم، كنا نعامل السجناء بشكل سيىء. كان الطعام رهيباً. العديد من السجناء كانوا يعانون السل، وكنا نضربهم. يقول حمسة، مصرّاً على عدم الاعتراف بأنه عذب قويدر. بدوره يقول قويدر: "كنت جهاز تعذيب. وظيفتك الوحيدة كانت تعذيب السجناء. نحن نذكر ما فعلته كل ثانية، لكنك نسيت، لأنك عذبت كثيرين". يبتسم حمسة ويقول: "تلك كانت أوامري، ماذا كان بإمكاني أن أفعل. ابن عمي كان في السجن، وكنت مراقباً. لم يكن لديّ أي خيار". بعضهم يندم والبعض الآخر أراد التعبير عن ولائه للنظام بعد عودة حمسة إلى زنزانته، يقول حارس السجن: "نحن نريد أن نضع الجميع أمام قوس العدالة. نحن الآن بحاجة إلى محاكمات القتلة لتحقيق المصالحة الوطنية". لكن من هو المتهم؟ استجوب قويدر العديد من المجرمين في أبو سليم، وكلهم أجابوا بالكلمات نفسها: "لو لم نقتلهم، لكان مصيرنا القتل". قويدر نفسه يقول إنه لا يعرف ما كان ليفعله في موقفهم. لكنه يضيف: "لكن أعتقد أنهم فعلوا ذلك أيضاً لإثبات ولائهم، فلم يدع أحدهم أنه مريض وغير قادر على تنفيذ الأوامر، ولا حتى في اليوم الثاني من المجزرة. حتى أولئك الذين كانوا في إجازة أتوا للمشاركة في المجزرة". يبكي بعض هؤلاء عندما يتحدثون عن المجزرة اليوم، لكنّ الآخرين لا يظهرون أي انفعال على الإطلاق. خسرت 11 سنة من عمري في 29 حزيران/يونيو السابق، عاد قويدر إلى أبو سليم في الذكرى السنوية للمجزرة. للمرة الأولى، كان الليبيون أحرارًا لإحياء ذكرى موتاهم علناً، بعد 16 عاماً من ذلك اليوم المشؤوم في العام 1996. بعد الإفراج عنه، لم يتحدث قويدر أبداً عن المذبحة والتعذيب، وقمع الذكريات في أعماقه. لكن هذه الطريقة لم تساعده، فتسلق الحشائش والشجيرات لدخول السجن الذي أضاع 11 عامًا من حياته، من 1989 إلى 2000. خلال تلك السنوات، ولدت ابنته وكبرت وذهبت إلى المدرسة. زوجته فضيلة انتظرته، على الرغم من أنها لم تعرف إذا كان لا يزال على قيد الحياة. يقول قويدر مشيراً إلى فناء مغطى بالأنقاض"هذا هو المكان الذي علقني فيه حمسة. بقيت معلقاً لأيام عدة وأنا أهلوس. صرت أحدث نفسي إلى أن فقدت الوعي، فنقلوني إلى زنزانة أقل من متر مربع واحد. بقيت فيها لمدة 25 يوماً، كانت كالجحيم، ولم أستطع تحريك يدي طوال ستة أشهر". لا حياة طبيعية بعد السجن للاحتفال بالذكرى السنوية، أنشأ العديد من السجناء السابقين معرضاً في واحدة من الساحات حيث وقعت المجزرة. علقوا الرسائل التي كان يتم تهريبها على الجدران، وعرضوا بعض الأدوات التي كانت تهوّن عليهم معاناتهم في السجون. يتنقل قويدر بين طاولات المعرض وكأنه انتقل إلى حياة السجن الماضية. يدير يده على كرة القدم خيطت من قطع القماش. يلتقط قبعة من الصوف التي خاطها أحد السجناء لتقيه برد الشتاء، ويمسك مسبحة صلاة صنعها سجين آخر من بذور الزيتون، وأحذية مصنوعة من أجزاء من السجاد والمطاط - محاولات يائسة للحفاظ على قطعة صغيرة من الإنسانية في مكان غير إنساني. على طاولة أخرى في المعرض، عصا خشبية، قطعة من خرطوم حديقة، وأنابيب الحديد والكابلات. يقول قويدر: "هذا ما كانوا يضربوننا به، وليس فقط أثناء عمليات الاستجواب، بل باستمرار. كلما أردنا استلام الطعام، تلقينا وابلاً من الضربات. هل من الممكن أن نعيش حياة طبيعية بعد هذه التجارب؟، سأكون كاذباً إذا قلت إن حياتي طبيعية. لسنوات عديدة، لم أكن أتواصل مع أي شخص من خارج عائلتي، لأنني كنت اعتبر الجميع من جهاز المخابرات". المغفرة للحصول على السلام يرتدي قويدر اليوم زياً عسكرياً، مشابهاً لما كان يرتديه معذبه، إلا أنه مطرز على الكتفين بالهلال والنجمة، رمز الثورة. يتجول صباحاً بين السجون. يتوقف أمام الزنزانة رقم 6 و يفتح الباب. "صباح الخير حمسة. هل كل شيء على ما يرام؟، كيف الطعام؟"، يومئ حمسة برأسه، ويغير في فراشه، فيما يحدق ستة سجناء آخرين بقويدر والحزن ظاهر في عيونهم. أحياناً يتحدث قويدر إلى معذبه حمسة. يجلب له الطعام، يسأل إذا كان بحاجة إلى أي شيء. يسأله عن عائلته، ويحاول معرفة المزيد عنه، باحثاً عن قطعة من اللغز، الذي يمكن أن يفسر لماذا أصبح قاتلاً سادياً. لكن حمسة لا يقدم أي تفسير، ويلتزم بالابتسامات والأعذار. قويدر غفر لمعذبه ليحصل على السلام، على الرغم من أن والدته تقول إنه لا ينبغي أن يغفر له، وعلى الرغم من أن زوجته تقول إنه يجب تعذيبه، ليس بشدة، لكن بما يكفي كي يعرف شعور الألم الذي عاناه. لكن قويدر يرفض الانجرار إلى أسفل هاوية الكراهية من جديد. ولا يهمه سوى التأكد من أن السجناء يتناولون الطعام نفسه الذي يتناوله الحراس، وأن أحداً منهم لا يتعرّض للتعذيب. العدالة في ظل التهديد والترهيب المحاكمات ستبدأ قريباً، وفقاً لقويدر، الذي يريد أن تصل الأمور إلى خواتيمها ليجد السلام أخيراً. لكن هل من الممكن تحقيق العدالة في ليبيا، للضحايا والجناة على حد سواء؟. كان هناك بعض القضاة الشجعان خلال فترة الديكتاتورية. وتتمتع ليبيا اليوم ببرلمان منتخب بحرية برئاسة عضو منذ فترة طويلة في المعارضة. الشروط الأساسية ليست سيئة، لكن بعد 42 عاماً من الظلم، هناك إغراء كبير لتفسير القانون على نحو يعطي الأفضلية للمنتصرين. وشهدت ليبيا بعض المحاكمات أخيراً. وحكم على المرتزقة بالسجن لمدد طويلة في طرابلس. أما في بنغازي، فرفع قادة البلاد دعاوى قضائية جديدة ضد القتلة المزعومين والخونة. لكن الأمر ليس سهلاً، لأن محامي المتهمين يتلقون تهديدات. لم يتم احترام العديد من معايير المحاكمات العادلة، فالقضاة منحازون، ولا يتم تعيين محامين للسجناء في كثير من الأحيان. وإذا وجدوا، يكونون تحت وطأة التهديد والترهيب، يقول صلاح حنان، الذي يعمل في منظمة هيومن رايتس ووتش في ليبيا. البلاد لا تزال منقسمة بين الثوار والموالين للنظام. ومن دون محاكمات، قد تنحدر ليبيا في دوامة الانتقام التي من شأنها أن تعرقل الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في البلاد. وقد تم قتل عشرات وربما مئات من الناس حتى الآن، في أعمال "العدالة الأهلية". اتركوا اللحوم لإخوتكم خليل، صديق قويدر، الذي يعمل حارساً في السجن، حيث قتل اثنين من أشقائه، يقول إنه اكتشف وفاتهما بعد أربع سنوات من المجزرة. "حتى ذلك الحين، كنا نذهب إلى السجن كل ثلاثة أشهر لنعطيهم الطعام والملابس. كنا فقراء، لكن أمي كانت دائماً تقول: لا تأكل اللحم، اتركوه لإخوتكم". بعدما اكتشف موت شقيقيه، علم خليل أن مدير السجن كان يبيع اللحوم في المتجر. يغطي وجهه بيديه ويبكي: "إنه شعور رهيب، أن تأمل ولا تجد شيئاً". كل يوم، عندما يعود إلى المنزل من عمله في السجن، تسأله والدته: هل اعتقلت مجرماً آخر؟، إذا قال نعم، تضحك وتضحك حتى الجنون. عندما ينتهي كل شيء، يقول خليل، الذي قتل 37 شخصاً، إنه يريد أن يذهب ليتلقى علاجاً نفسياً، ثم ينتقل إلى الكلية. إنه يخطط لبيع الأثاث مرة أخرى. أما قويدر، فيريد أن يعود إلى وظيفته القديمة، ضابط في وكالة الاستخبارات الداخلية، المكان نفسه الذي عمل فيه خليل سابقاً. وهذا هو الخيط الرفيع بين الذنب والبراءة.