الرياض - السعودية لم تَصْدر الثورة الإيرانية عن تَصوّر ماضوي خالص؛ على الرغم من تحوّلها إلى ثورة ماضوية رجعية بكل المقاييس. المفاهيم والشعارات التي جرى الحشد بها - ولها – ابتداء، لم تكن دينية خالصة، أو لم تكن دينية من البداية إلى النهاية، بدليل أن تجربة مصدق - كتجربة سابقة مُلهمة بشكل ما - كانت ذات منحى يساري واضح، لا يتفق مع الخط الديني التقليدي السائد. كما أن النشاط السياسي الكبير للحزب الشيوعي الإيراني (توده) في العقود الثلاثة التي سبقت الثورة يؤكد أن الروافد الثقافية الأجنبية كانت تُعيد صياغة الوعي الإيراني العام، إما بشكل مباشر، كما في التيارات المدنية الخالصة، وإنما بشكل غير مباشر، نتيجة ما تسرّب من مفردات /مصطلحات/ مفاهميم الوعي المدني إلى فضاء النشاط الديني، ومن ثم إلى وعي عموم المتدينين المتأثرين بخطاب رجال الدين. يرى الباحث الفرنسي القدير أوليفيه روا، أن الثورة الإيرانية انفجرت في العام الذي تجاوزت فيه نسبة المدنيين ولأول مرة الخمسين بالمئة (تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، ص57). وطبعا، لهذا دلالته الواضحة في أن الثورة هي نتاج تحولات نحو الوعي المدني التي يعكسها التحول الكبير نحو الحياة المدنية، هذه الحياة التي لا بد أن تُجري كثيرا من المتغيرات العميقة على شبكة العلاقات الاجتماعية/الاقتصادية، ومن ثم على معادلات الواقع السياسي. يسهل استغلال الجهلة، عن طريق تزييف وعيهم بالواقع، إما بتثبيت الجهل الأولي/ البدائي/ الفطري، وإما – وهو الأخطر – بتقديم مقولات الخرافة وتهويمات الخرافيين التراثيين بوصفها: (علما)، ومن ثم تحويل هذا الجهل (الجهل المظنون علما) إلى أداة لتفسير الواقع، أو لتبرير الواقع، أو - في أسوأ الأحوال – لتغيير الواقع إلى ما هو أسوأ. وهذا الخيار الأخير هو - للأسف - ما يحدث في معظم دول العالم الثالث التي يسيطر على وعي جماهيرها البائسة خطاب مُحنّط ينتمي إلى عصور التخلف. يتميز الوعي الحديث الذي نستمد مكوناته من عصور التنوير، وما تلاها من تطورات ناقدة ومتجاوزة، بأنه وعي نقدي يُفقد المرء قناعته الساذجة بالواقع، ومن ثم يُمدّه بنَفَس ثوري، تكون تحولاته – ومن ثم مخرجاته – متلائمة مع طبيعة استجابته لتحديات الواقعين: الفكري والعملي. والخطاب التقليدي؛ مهما كان منغلقا، فهو ليس بمعزل عن التأثر بهذا الوعي، خاصة عندما يصل هذا الوعي إلى درجة يكون فيها خطابا مُستفزا/ متحديا لبقية الخطابات الفاعلة في الفضاء العام، تلك الخطابات التي ستدخل معه في تفاعل جدلي ذي صبغة احترابية، على مستوى الخطاب، وعلى مستوى الممارسة في الواقع العملي. لقد تماس الوعي الديني الإيراني في مرحلة ما، مع هذا الوعي المدني المتنوع بدرجات متفاوتة، وبتوجهات متباينة. استفاد الوعي الديني من أعدائه دونما قصد في معظم الأحيان. ومن ثَمّ، استمر تمزّق الوجدان الشعبي بين موروثه الذي يحمل له الحب والتقدير والاحترام، ولكنه لا يقدم له تطورا إيجابيا في الواقع، وبين الحياة الجديدة الوافدة، هذه الحياة الجميلة الواعدة بكل ما يبهج، والتي تُؤكد يوما بعد يوم، وبوقائع عملية مشاهدة، أنها قادرة على محاصرة حالة البؤس الذي يفترس حياة الملايين. ولأجل هذا الاختلاط بين مسارات الرؤية الجماهيرية، القائمة على تنوع توجهات النخب القيادية؛ قال أحدهم عن الثورة الإيرانية: "إن ما يحدث ما هو إلا ثورة من أجل الديمقراطية وضد الأوتوقراطية تقودها الثيوقراطية" (مدافع آية الله، محمد حسنين هيكل، 185). ولك بعد هذا أن تتوقع النتائج النهائية المتمثلة في طبيعة الحكم؛ بعدما بات واضحا تضارب هوية الوسائل مع هوية الغايات، وسيتضح أكثر فأكثر أن الغلبة في النهاية هي لمن يراهن على وجدان الأغلبية؛ حتى ولو كان بإرجاعها قروناً إلى الوراء. استطاع الخطاب الديني تحقيق أكبر قدر من التفاعل مع التطلعات الساذجة للجماهير التي تفكر بعواطفها قبل عقولها. هذا الخطاب الذي دخل ساحة الفعل السياسي في سنوات ما قبل الثورة، قدّم للجماهير المتدينة ما تتمناه، حلّ لها المعضلة التي طالما أرّقتها، فتح لها بوابة الأمل على مصراعيها في إمكانية الجمع بين موروث تُجلّه، بل وتعشقه بكل جوارحها، وبين حالة التمدن الواقعي المتعقلنة، تلك الحالة التي بات خيارا حياتيا لا يمكن القفز عليه بحال. مع هذا، لم تَجرِ الأمور مُتساوقة مع هذا المنحى التلفيقي، الذي إن كان سيئا؛ فليس أسوأ من الرجعية الخالصة التي تحكمها العقائد الدوغمائية التي لا تستطيع الذرائعية السطحية التخفيف من نفسها التسلطي الإقصائي. ما حدث بعد انتصار الثورة، كان انقلابا على روح الثورة، إذ إن رجال الدين بعد تربعهم على عرش السلطة، بل واحتكارهم لكل مساراتها، قلّت – نسبيا - حاجتهم لمراعاة التوق الجماهيري، وبات رجال الدين الذين كانوا يتوسلون تأييد الكل بداية الثورة، مقتنعين أنهم ليسوا بحاجة إلى شركاء مدنيين يشغبون عليهم في خياراتهم التزمتية، تلك الخيارات التي لا يفهمونها إلا بوصفها قطعيات دينية، أو قطعيات من حيث موقعها لترسيخ القطعيات الدينية. ومن هنا أتى إقصاء الليبراليين واليساريين بعد انتصار الثورة (طبعا، هناك خلفيات موضوعية لهذا الإقصاء، ليس هذا مجال سردها)؛ ليؤكد دكتاتورية الحكم الثيوقراطي في مسيرة ثورة كانت مقدماتها الأولى تشير إلى توهّج روح مدنية تحررية، تمتزج فيها مبادئ الليبرالية التحررية مع خيارات اليسار، سواء في العدالة الاجتماعية، أو في مقاومة ما يُسمى ب: (النفوذ الإمبريالي). بعد خفوت الروح الثورية، وإرساء الدولة على مبادئ دينية خالصة، بل مبادئ دينية تراثية، لم يعد بالإمكان أن تستقر علاقة إيران مع هذا العالم الذي يشير مساره التطوري العام إلى زمن ليبرالي يتحقق باستمرار. صحيح أن النظام عندما أرساه الخميني حظي بتأييد قطاع كبير من الشعب الإيراني، وبالتالي لم يكن ثمة تحدٍ داخلي يُهدد وجود النظام، إلا أن التحدي الخارجي، الذي سينتهي بالصدام كان حتميا؛ لأن الحكم الخمينوي الثيوقراطي كان يتموضع عالميا، وبحكم الأمر الواقع، في سياق مدني ليبرالي ينتمي إلى أفق الحداثة الذي تشكلت فيه الدولة القطرية الحديثة، هذه الدولة التي تختلف – على المستوى البنيوي وعلى المستوى الوظائفي - عن الدولة التي عرفها الفقهاء – شيعة وسنة - في كتب التراث. لقد كان قائد الثورة وصانع الدولة/ الخميني – رغم دهائه – يفكر بالدولة الأممية العقائدية في حدود المعطى التراثي؛ حتى وهو يشتغل على واقع قطري من معطيات الحداثة. يقول وليد عبدالناصر: "وقد اعتبر الخميني إنشاء الحكومة الإسلامية في إيران مجرد خطوة أولى تجاه إنشاء الدولة العالمية (...) وطالب حكومة إيران بأن يكون هدفها تحرير البشرية بأكملها". ويقول أيضا:"وقد رأى الخميني أن الإسلام لا يعترف بالحدود بين الدول الإسلامية (...) وقد اعتبر كذلك أن وحدة المسلمين هي طريقهم الوحيد لحكم العالم وإحياء حضارتهم"(إيران، دراسة عن الثورة والدولة، وليد عبدالناصر، ص58 و62). هكذا، يبدو الخميني، ومن ورائه إيران الخمينية، مقطوع الصلة بمنطق العصر، إذ يتحدث عن حكومة عالمية (تقابل الخلافة عند المتأسلمين من السنة)، لا تعترف بالحدود القطرية، بل وأكبر من ذلك، يبدو الهدف الغائي من التوحد الإسلامي هو الهدف الطوباوي الكبير عند الإسلامويين، حيث الحلم ب(حكم العالم!). وحقيقة "سعت حكومة آية الله الخميني إلى قيادة العالم الإسلامي بأكمله"(حلف المصالح المشتركة، تريتا بارزي، ص132)، كخطوة لتأسيس الحكومة الإسلامية الموحدة التي ستحكم العالم. هكذا نبدو – وفق هذه التصورات التراثية - وكأننا في عصر الرشيد أو المعتصم أو جنكيز خان، حيث المشروعية الدولية غائبة، والحدود متحولة لصالح الأقوى والأجرأ على العدوان. إن هذه التصورات الماضوية المرتبطة بالروح الثيوقراطية بقيت سائدة، بل حاكمة للثورة وللدولة حتى بعد وفاة الخميني. ولم تستطع حتى التجربة الخاتمية تجاوز ذلك. فخاتمي أراد؛ ولم يستطع؛ لأن منطق الدولة التي يحكم من خلالها كان أقوى منه. "استطاع الرئيس المثقف [خاتمي] صك التعبيرات والمفردات التي تقترب من الأفكار الليبرالية، ولكن دون أن تغادر المربع الديني الإيراني"(حدائق الأحزان، مصطفى اللبّاد، ص297). ومن بعد خاتمي تطوّر الوضع إلى ما هو أسوأ، إذ كشّرت الراديكالية الدينية القابضة على مفاصل السلطة عن أنيابها في حربها ضد التوجهات الليبرالية المتطلعة للإصلاح. كل هذا يؤكد حقيقة باتت واضحة، وهي أن كل مَن يختلف مع سلطة رجال الدين فهو – في نظرهم – عدو للإسلام، يجب اجتثاثه من أصوله؛ حتى لو كان حراكه حراكا سلميا؛ لأنه خطر محتمل. لهذا، من الطبيعي أن يؤكد أحد المحافظين الراديكاليين/ محمد جواد لاريجاني على ضرورة التخلص من "المنحرفين عن الإسلام"، ويقول – بلغة: يا قاتل؛ يا مقتول - : " كل تشكيل ينحرف عن الإسلام فإنه يعد عدوا خطيرا ينبغي محاربته وإلا فإنه سيحاربنا"(التيارات السياسية في إيران المعاصرة، حجت مرتجى، ص87). وهذا رئيس الحرس الثوري يتحدث عن (الليبرالية الزاحفة) واعدا بالقضاء عليها وإسكاتها إلى الأبد. (مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص 79). وهو يقصد بذلك الليبراليين الداعين للإصلاح، الذين لا يريدون إلا التخفيف من ثيوقراطية الحكم؛ لصالح توجهات مدنية لا تتعارض مع قطعيات الدين، وإنما تتعارض فقط مع قطعيات التصور الثيوقراطي لرجال الدين. إن إيران لم تُصنفها الولاياتالمتحدة ضمن محور الشرّ عبثاً، ولم تتوتر علاقتها بمعظم دول العالم مُصادفة، بل حدث ذلك لأن ثمة سياسات متمردة على منطق العصر الذي بات يحكم العالم بدرجات متفاوتة، فأنت إذا كنت تكره معظم دول العالم وتصادمها، ومعظم دول العالم تكرهك وتصادمك؛ فلا شك أن لديك مشكلة كبرى. يقول رضوان السيد: إيران غاضبة من كل أحد، من العرب ومن المسلمين ومن الأوروبيين ومن الأميركيين (جريدة الاتحاد 4/5/2008م من مقال بعنوان: "إيران بين الغضبين الإسلامي والقومي"). ومهما اختلفت وجهات النظر؛ لا يمكن أن يكون كل هؤلاء على خطأ بكل ما لديهم من قيم ومبادئ ومؤسسات قانونية راسخة، لا يمكن أن يناصب كل هؤلاء إيران العداء مصادفة، أو هواية عابثة، وأن تكون إيران على صواب في كل هذه الكراهية التي تُكنّها للآخرين!. لقد كان بإمكان الدولة التي نتجت عن الثورة الإيرانية أن تتصالح مع العالم، وذلك بالتخفيف من حمولتها الإيديولوجية، ولكنها اتخذت – عمدا - طريق الصدام. وهو صدام تفرضه الرؤية الدينية المنغلقة، بل وتفرضه اشتراطات الطبيعة الثيوقراطية للحكم. ولا شك أن رياض الريس لامس الحقيقة عندما قال: "كل الثورات تبحث دائما عن مخارج، إلا الثورة الإيرانية فكانت تبحث عن مزالق"(مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص165).