الاقتصادية - السعودية كثر الحديث أخيرا عن مشكلات المياه محليا وإقليميا، بل حتى عالميا، حتى ظهرت على السطح مصطلحات عدة كالفقر المائي، البصمة المائية للمنتج، الماء الافتراضي، النزاعات الحدودية "المائية"، بل حتى "حروب المياه" للسيطرة على منابع مائية معينة. ويبدو السؤال البديهي في ذهن المتلقي العادي هو: لماذا؟ أليست الأرض مغطاة بالماء؟ أوليست توصم بالكوكب الأزرق لوفرة المياه على سطحها؟ بنظرة خاطفة إلى كوكبنا، نرى البحار والمحيطات تحيط باليابسة إحاطة السوار بالمعصم والأنهار تجري مخترقة البلدان كالشرايين، بل حتى الغلاف الجوي الذي يلتف حولنا مشبع بالماء.. فلماذا التنازع حوله وهناك وفرة فيه؟ ولمَ الجزع وأين المشكلة المائية التي يتحدث عنها الجميع؟ لمعرفة أصل "المشكلة المائية" عالميا ومقدارها، سنتحدث عن المسببات الأربعة الرئيسية على عجل: أولا: صحيح أن المياه متوافرة بشكل هائل على سطح الأرض – بل حتى في باطنها- إلا أن الغالبية الساحقة (97.5 في المائة) من هذه المياه غير صالح للاستخدام المباشر (سواء للشرب أو الاستخدام الزراعي أو حتى الصناعي)، بسبب الملوحة العالية، وهي مياه البحار والمحيطات. مياه الشرب يجب أن تكون ملوحتها أقل من ألف ملغ/لتر في حين تبلغ ملوحة الخليج العربي مثلا حدود 40000 ملغ/ لتر، أما ملوحة (أعذب) بحر- وهو بحر البلطيق- فهي في حدود 28000 ملغ/لتر. السبب في اختلاف ملوحة المسطحات المائية – التي تبلغ في المتوسط 35000 ملغ/لتر- يكمن في أسباب عدة منها كمية المياه العذبة - الأنهار التي تصب فيها - وكمية التبخر منها – وهي عالية مثلا في المناطق الحارة كالخليج العربي وتقل في المناطق الباردة، وعليه فإن البحار بل وأجزاء المحيطات الواقعة بالقرب من خط الاستواء هي الأشد ملوحة بعكس البحار وأجزاء المحيطات بالقرب من القطبين. إذن نسبة المياه العذبة على سطح الكوكب تبلغ 2.5 في المائة فقط من مجمل المسطحات المائية. ثلثا هذه النسبة الضئيلة لا يمكن استخدامها لأنها محتجزة في الجبال الجليدية. أي أن نسبة المياه العذبة والممكن استخدامها لا تتجاوز 1 في المائة فقط وهي التي تشمل مياه الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية في كل أنحاء العالم! ثانيا: هنالك مسألة التوزيع (غير العادل) لمصادر المياه. فحتى النسبة الضئيلة للمياه العذبة (1 في المائة) على سطح الأرض غير موزعة بشكل متناسب مع الاستهلاك (أو الكثافة السكانية). وعليه يقسم العالم بحسب وجود المصادر المائية – المستدامة - إلى دول غنية مائيا وأخرى فقيرة. المملكة العربية السعودية- كغالبية الدول العربية- تعتبر بلدا فقيرا جدا مائيا، حيث يبلغ نصيب الفرد من المياه المتجددة أقل من 2.7 متر مكعب يوميا. نصيب الفرد في بلد غني مائيا كالبرازيل يبلغ 30 مترا مكعبا تقريبا. ثالثا: زيادة الطلب العالمي على المياه بسبب النمو السكاني المتزايد. وبجانب النمو السكاني العالمي الذي تضاعف من 1.6 مليار في عام 1900 حتى ستة مليارات في عام 2000، هناك أيضا التغير في نمط كثير من سكان العالم من النمط الريفي إلى الحضري. فقد شهد عام 2008 حدثا مميزا، إذ أصبح سكان المدن للمرة الأولى في تاريخ البشرية أكثر من سكان الأرياف - نسبة سكان المدن في المملكة العربية السعودية مثلا تبلغ 82 في المائة. هذا التحول إلى المدنية تترتب عليه زيادة مطردة في استهلاك المياه أضعاف الاستهلاك الريفي بسبب ارتفاع مستوى المعيشة - مياه أكثر لغسيل السيارات وملء أحواض السباحة مثلا- وسهولة الحصول على المياه. هذه الزيادة ضاعفت الاستهلاك السنوي العالمي للمياه من 580 كم مكعب في عام 1900 إلى سبعة أضعاف أو 3973 كم مكعب عام 2000. النمو السكاني العالمي صاحبته ضرورة نمو زراعي وصناعي غير مسبوق. فالزيادة السكانية أدت بشكل مباشر إلى زيادة الطلب على المحاصيل الزراعية والمنتوجات الحيوانية التي تستهلك بدورها كميات مائية كبيرة. وكذا أدى التطور الصناعي إلى إنتاج كميات ضخمة من مختلف المنتجات التي يدخل الماء في تصنيعها. رابعا: السبب الأخير الذي يدعو إلى القلق بشأن مستقبل المياه في العالم هو التلوث المستمر لمصادر المياه العذبة القليلة أصلا. فالمسطحات المائية كانت ولا تزال تعمل في الواقع كمحطات استقبال ومعالجة لجميع أنواع الملوثات، لكن كمية هذه الملوثات في الفترة الأخيرة وظهور ملوثات كيميائية عصية على التحلل أدى إلى تفاقم هذه المشكلة عالميا. ببساطة هنالك ثلاثة أنواع رئيسية من الملوثات التي تنتهي في مصادر المياه: ملوثات بشرية (أو مياه الصرف الصحي) وملوثات صناعية وملوثات زراعية (مبيدات حشرية ونباتية). الإحصاءات في هذا الجانب مخيفة، فمثلا 90 في المائة من مياه الصرف الصحي في العالم الثالث تلقى في المسطحات المائية من غير معالجة، ما يؤدي إلى انتشار الأمراض والأوبئة. أما حوادث تلوث المياه بالمخلفات الزراعية والصناعية – حتى في دول العالم الأول- فكثيرة جداً. كانت هذه نظرة سريعة تهدف إلى التعريف بمشكلات المياه عالميا، ونشر الوعي لدى القارئ في هذا المجال. فالخطوة الأولى لحل أي مشكلة هي إدراك وجود – وحجم- المشكلة. في المقالات المقبلة سنتحدث -بمشيئة الله- عن كل سبب من الأسباب الآنفة بشيء من التفصيل، مع التركيز على المملكة العربية السعودية حيثما أمكن.