كان الماء حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريباً يعتبر هبة مجانية غير ناضبة، وكان وجوده قليلاً في الصحاري القليلة السكان. وفي القرن العشرين تغيرت النظرة إلى الماء بشكل كبير. فنتيجة لنمو السكان السريع على الأرض والتطور العاصف للصناعة، برزت مشكلة تأمين الماء العذب للناس وصارت المشكلة رقم واحد عالمياً. وفي وقتنا الحاضر، يستخدم الناس سنوياً أكثر من 3000 مليار م3 من الماء العذب، وهذا الرقم ينمو بسرعة واستمرار، وفي كثير من المناطق الصناعية الكبيرة أصبح الماء العذب لا يكفي حاجة المستهلك. وإذا عدنا للعصور القديمة والقرون الوسطى، نجد أن استهلاك الفرد الواحد من الماء العذب كان يتراوح بين 12 و18 لتراً يومياً فقط. وفي القرن التاسع عشر, وفي الدول الغربية المتطورة صناعياً بشكل خاص، ازدادت حصة الفرد الواحد من الماء إلى 40-60 لتراً يومياً. وفي نهاية القرن العشرين تضاعف هذا الرقم عشر مرات، ومع بداية الألفية الجديدة يلاحظ أن الرقم يتضاعف بشكل مخيف. وبشكل عام فإن المدن الكبيرة الحديثة المجهزة بشبكات المياه والصرف الصحي، تكون نسبة الاستهلاك المائي للفرد الواحد أعلى بكثير من الأماكن الريفية الصغيرة. ذلك أن حصة الفرد الواحد في المدينة الكبيرة الحديثة تتراوح ما بين 300 - 600 لتر ماء في اليوم. وبالطبع تدخل ضمن هذه الكمية أيضاً كمية المياه التي تصرف على اقتصاد المدينة، مثل سقاية الأشجار وغسل الشوارع. وفي الأماكن الريفية، وحتى في أكثر البلاد تقدماً، لا يتجاوز استهلاك الفرد الواحد أكثر من 100-120 لتراً في اليوم. أما في البلاد النامية الأقل تطوراً، فتصل الكمية 20-30 لتراً في اليوم للفرد الواحد. إن تزويد السكان بالماء يشكل أقل جزء من الاستهلاك العالمي الكلي للماء، حيث لا يزيد على 5% من الاستهلاك الإجمالي. ولا يوجد أي فرع من فروع الصناعة لا يستعمل الماء، حيث يستخدم الماء في العمليات الإنتاجية كمحل أو مذيب، وناقل للحرارة (بخار، ماء ساخن)، ومبرد. وبشكل عام فإن الاستهلاك المائي يتأرجح في مجالات واسعة بالنسبة إلى مستوى العملية الإنتاجية. كما تستهلك كميات كبيرة من الماء في الصناعات الغذائية، وبشكل خاص في المسالخ وفي المزارع وفي المصانع. ولا شك أن التطور الصناعي يتطلب استهلاكاً كبيراً للماء، وبخاصة أن هذا الماء يتسخ من جراء المخلفات الصناعية، وهذا يعد السبب الرئيس في نقصان الماء العذب على الكرة الأرضية، مع العلم أن الصناعة تحتل المركز الثاني بعد الزراعة من حيث استهلاك الماء، حيث يأتي الاستهلاك الرئيس للماء في الاستخدامات الزراعية من الري والسقاية. وتشير الإحصاءات إلى أنه في الوقت الحاضر تروى مساحات تقدر بأكثر من 230 مليون هكتار في جميع أنحاء العالم.ويشغل استهلاك الماء في الاستخدامات الزراعية المكانة الأولى من بين مختلف استعمالات المياه، ويزيد على 3000 كم3 في السنة أو 70% من الاستهلاك العالمي، ويشكل الاستهلاك غير العائد حوالي 1500كم3 من هذه الكمية.وهناك شكل آخر من أشكال فقدان الماء نتيجة استعمال المياه الطبيعية من قبل الإنسان، وهو التبخر من سطح الخزانات المائية، حيث تبلغ مساحة الخزانات المائية في العالم حوالي 300-400 ألف كم2. مما سبق يتبين لنا أن هناك أربع طرق رئيسية لاستهلاك الماء من قبل البشرية وهي؛ السكان، الصناعة، الزراعة، الخزانات المائية. وهي تستهلك في السنة أكثر من 3000كم3 من الماء العذب، أي ما مجموعه 7% من كمية الجريان لأنهار العالم مجتمعة والتي تساوي 4454كم3. وهذه الأرقام، كما يقول أوليغ سبنغار في كتابه «هل تكفي المياه أحفادنا؟»، غير دقيقة تماماً، ولكن ترتيبها لا يثير أية شكوك.وللوهلة الأولى تبدو نتائج حسابات الصرف العام للماء مشجعة، ويبقى غير واضح، السؤال التالي؛ لماذا ظهرت في الصحافة العالمية العناوين المرعبة عن قلة وعدم كفاية الماء العذب وعن المشكلة رقم واحد عالمياً وهي تأمين الماء للإنسان؟ لقد نشأ الخطر من عدم كفاية الماء نتيجة للنمو السريع لسكان الكرة الأرضية، حيث يزداد عدد سكان الأرض بمقدار شخصين كل ثانية. ونتيجة للتطور الصناعي العاصف للصناعة تظهر فروع صناعية جديدة تتطلب استهلاك كميات كبيرة من المياه. ختاماً أقول؛ إن النتيجة المتفائلة لتأمين البشرية بالماء العذب في المستقبل تبقى صحيحة فقط في حالة ما إذا اتخذت وبشكل واسع التدابير الموجهة إلى التوزيع الصحيح للمصادر المائية على الأرض وحسب الزمن، واستمر النضال ضد تلوث المياه لصالح الاقتصاد العالمي في الماء العذب في الصناعة والزراعة. إن الأساسيات في تلك التدابير قد بحثت، وهي تحويل أو نقل الماء العذب من المناطق الغنية به إلى المناطق الفقيرة به، وبناء السدود والخزانات المائية على الأنهار لتنظيم مجاريها، والنضال ضد تلوث المياه في البيئة وضرورة تصفية وتنقية المياه الناتجة عن شبكات الصرف الصحي المعيشية والصناعية، والتحول أيضاً إلى التقنية التي لا تتطلب كميات كبيرة من الماء، وفي النهاية تحلية مياه البحر والمياه الجوفية المالحة. فإذا روعيت هذه التدابير مجتمعة، عندها يمكن للبشرية أن تستخدم ولفترة طويلة جداً نعمة الله التي لا تقدر بثمن، ألا وهي المياه التي جعل منها الله عزَّ وجلَّ كل شيء حي.