د. محمد بن سعود المسعود الاقتصادية - السعودية حكمة فرنسية تقول: "الأحمق وحده من لا يحترم رأي من يختلف معه". ولعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه عبارة شهيرة "إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية"، وكان يقول "اضرب الرأي بالرأي يظهر الصواب". وينسب إلى سقراط "إني سأدفع حياتي ثمنا لتقول رأيك الذي لا أؤمن أنا به، وأختلف معك في صحته". حرية أن تقول أنت ما تؤمن به، لا أن تُسمعني أنا ما أحب سماعه، أو أتفق معك فيه، وللرئيس ابن سينا "كلما تعلمت أكثر كنت أقدر على احترام رأي من يختلف معك..". هنا النضج العقلي وحده ينقلب بأهله إلى التقبل والتفهم، ولا يعجزهم عن الحب الصادق للمختلفين معهم في الرأي. وكل عنف، وقسوة، وكراهية، هي رسل نفس قاصرة، وعقل صغير، وعاطفة تجرجر طفولتها الجاهلة قبل الفطام، التي تفهم ما حولها بصورة الانطباق والتوافق الكلي، ولا يتسع إدراكها، لمفهوم التعدد في رؤية الزوايا المختلفة، والعجز عن الإحاطة، والعلم كل الجهل، لكل سبب ونسب يتصل به وينتهي إليه. جزء من النفس يصطفي الفكرة وينتقيها، وطبائع النفوس جزء مكون وحاضن للفكرة والرأي، فالنفس النقية الطاهرة الطيبة ليس بوسعها أن يأوي إليها فكر القتل، والاستباحة، وإذلال الخلق، مهما كانت المبررات والأسباب، بل يتجه بكل كيانه يأوي إليه الرأفة والرحمة، والكرم، والجود، والإحسان وكل معانيها، وصورها، وسلوكها المقرب. التطرف الديني نفس معتلة، تريد أن تفعل مرضها النفسي بكراهية ذاتها، الذي تترجمه في كراهية الحياة، والناس جميعا، ولكل ضحية سبب لكراهيتها، ولكلٍّ نصيب من موجبات التنكيل بها أو قتلها واستباحتها. ولذا لم يغادر ابن آدم أنبوءة الأنبياء عنه، بوصفه المخلوق الذي سيفسد النظام الكوني، والذي يستمر في قتل النفس التي حرم الله، والذي سيحمل بغيه وظلمه فوق ظهره ثقيلا طيلة عمره، حتى يُرديه في قبره ظالما، وباغيا، ومفسدا، وفاسدا، وغافلا عن نفسه أكثر المرات، وعن ربه دائما، إلا ما رحم الله، وقليل ما هم. هبط فعلا الإنسان إلى الأرض بأخلاقه وفكره ونفسه، حتى صارت له موئلا وحصيرا. ساقطا عن مقام القرب من ربه، وبعيدا كل البعد عن استحقاقه. حالنا اليوم أضيق نفسا، وأصغر عقلا من كل هذا الذي يُروى، إننا نعيش في جوار قوم يكفي أن تقول قولا واحدا ليزدريك بما لا يشفع إليك عنده، رشد قديم، ولا حكمة سابقة، ولا صلة طاهرة صادقة. إنها طبائع من النفوس فيها طبع الضباع، التي لا تحفظ لأحد حرمة ولو طال أمد إحسانه إليها، ودوام صلته بها. طبائع نفوس، الهوى فيها غالب، والقلوب مطموسة، والعقول مغلوبة. أما العقول فهي مغلوبة بأضعف سبب، وأضعف سبيل، يكفي أن تكتب تغريدة واحدة، يكفي أن تقول رأيا واحدا، يكفي أن تختلف، أو لا توافق، أو لا تؤيد، أو لا ترضى وتقبل. يكفي أي من هذا كله لينتهي بك إلى نقطة الصفر.. وتتحول أنت إلى اضمحلال الصفر تماما. انظر بعينك كم من الكبار أنزلناهم من عليائهم لموقف، وكم من عالم رجمناه بحجر لرأي جاهرنا به، وكم من مفكر وكاتب وحامل رأي جعلناهم كعصف مأكول في جلجلة مندفعة، وقسوة عارية حتى من قشرة رقيقة من الأخلاق، أو البصيرة، أو النضج الذي يجعلنا ننسجم مع التناقض والمختلف، الذي نكره رأيه ونحبه؛ لأنه في الأخير واحد من أنفسنا، واحد من بشريتنا التي تصيب وتخطئ. تهتدي تارة وتضل السبيل تارة أخرى. وهذا طبع النقص في ابن آدم، النقص فيه يهديه لكمال ربه وفقره إليه.