«لم تكن ولادتي بدايتي، إنّني ما زلتُ أترعرع وأنشأ عبر ألفيّات الأزل التي لا تُحصى، ما زلتُ أسمع بداخلي أصوات ذواتي السابقة، آه، لا تُحصى هي المرّات التي سأخلق فيها مجدّداً». تروي الكاتبة اللبنانيّة لنا عبدالرحمن في روايتها «ثلج القاهرة» (دار آفاق -القاهرة) قصّة امرأة، بل قل امرأتين، والأحرى قصّة ثلاث نساء: سولاي، نورجهان، بشرى. ثلاث نساء يعشن في جسد امرأة واحدة. هنّ ثلاث ولكنّهنّ جميعهنّ واحدة. امرأة واحدة تعيش الحاضر وماضيان اثنان يسكنانها، ثلاث حيوات في حاضر واحد يتخبّط تحت وطأة مشاهد يستعيدها من ذاكرته الروحيّة ويدأب على إعادة تركيبها كأحجية انسانيّة. تقدّم عبدالرحمن رواية تتأرجح بين راويتين: بُشرى الفتاة الشابّة، الرسّامة الموهوبة، المرأة المطلّقة من زوج لم يعرف كيف يحبّها، والتي فقدت أمّها قبل سنتين ونصف السنة تقريباً وما زالت عاجزة عن الخروج من دوّامة الفراغ والحزن التي تعيشها، ونورجهان الأميرة المصريّة التي تزوّجت أميراً تركيّاً لم يعرف أن يحبّها هو الآخر، فعادت إلى قصرها على ضفاف النيل تعيش فيه مع ألمها ووحدتها بعد أن منحتها الحياة حبّاً جديداً ولكنّها عجزت عن المخاطرة وخوضه لكون الحبيب منتمياً إلى دين مختلف. زمنان مختلفان يُضاف إليهما زمن أقدم هو زمن امرأة غجريّة اسمها سولاي تقدّم هي الأخرى شيئاً من ذكريات حياتها لبُشرى. فتعيش المرأتان في بشرى لكلّ منهما حصّتها من الذكريات، وكلّ منهما تتسلّم زمام السرد لتعود بنا إلى زمنها، وتقول نورجهان متحدّثةً عن بشرى: «لستُ روحاً أخرى، لستُ وهماً، لستُ سراباً، أنا هي، وهي أنا. أعيش في هذه الحياة فيها وعبرها ومن خلالها، وهي تعيش عبري ومن خلالي منذ زمن ضاعت حدوده». (ص 16). وإضافة إلى العمق الفلسفي في سبك الرواية، والرجعات إلى الحضارات الهنديّة والمشرقيّة القديمة بمعتقداتها وأفكارها، والذكر المتكرّر لأعلام التصوّف الاسلامي، يبقى عنوان الرواية هو الآخر لغزاً محيّراً يصعب فكّه، ويُضاف إلى العمق الميتافيزيقي الذي تتمتّع به الرواية. ففي نظر نورجهان التي غادرت قصرها في مصر، كان ثلج الأناضول يمثل المرض والموت وتحطّم الأحلام والعجز عن الإنجاب والوهن والضعف. كان يمثّل الأمير المكتوف اليدين أمام تصرّفات عائلته وطردها لأميرته المصريّة الشابّة. ثلج الأناضول هو الثلج الأوّل في الرواية، ثلج التحطيم والعطب. لكنّ ثلج القاهرة بالنسبة إلى بُشرى هو الحلم المنتظر، هو الخلاص والطهارة. تحلم بشرى بالثلج ينظّف شوارع المدينة وأهلها، تحلم به يسدل البياض على كلّ شيء ويعيد الوهج إلى الألوان والطيبة إلى النفوس. ثلج بُشرى هو الحلم البعيد المنال، المستقبل الذي تريد بلوغه والذي تدرك أنّه شبه مستحيل، الماضي الذي لا تعرف كيف تتخلّص من عبئه. انتظار ثلج القاهرة هو انتظار غودو بيكيت، انتظار تحقّق الوعد، انتظار الحب الذي ينعش القلوب المحطّمة والأفئدة الحزينة. ثلج القاهرة هو المطر في الصحراء، الحياة لأرض بور. فالماء هو عنصر الحياة الأوّل وثلج القاهرة هو ماء الحياة للمدينة ولنسائها الضائعات في حبال الماضي. شخصيّات يدفنها ماضيها يظنّ القارئ للوهلة الأولى أنّ البطل في هذه الرواية هو المرأة، سولاي أو نورجهان أو بشرى. ولكنّ البطل الحقيقي والمحرّك الأساس للأحداث هو الزمن وعلى وجه التحديد الماضي والفراغ الذي يخلّفه والفجوات التي يخلقها. «أنشج حزناً من الفقد والوحدة، ليس الحنين ما يعذّبني، إنّه الغياب، والتلاشي الموجع لكلّ ما كان». (ص 85). ترزح شخصيّات الرواية تحت وطأة ماضيها، وتعجز عن تخطّيه، ممّا يحوّل حاضرها إلى مجرّد نتيجة باردة لما جرى معها أو فترة انتظار وموت. فأوّلاً نورجهان الأميرة القديمة التي تتذكّر بشرى مشاهد من حياتها لم تستطع تخطّي ماضيها ولم تستطع التحكّم بمصيرها، فحكمت على نفسها بالوحدة والتعاسة، وربّما تكون بشرى قد استعادت مشاهد من حياة هذه الأميرة البائسة لأنّها كانت بحاجة إلى خاتمة أو نهاية أو ما يملأ النقص الذي عانته لترقد بعد ذلك بسلام. وبُشرى الفتاة العاجزة عن التحكّم بزمام أمورها والعاجزة عن العيش بسعادة والاندماج في محيطها وخوض علاقة جديدة بعد فشل زواجها، تعيش هاجس ذكرى فقدان أبيها وبيتها الدمشقي ومن بعدهما بتسعة أشهر فقدان أمّها. تتحوّل إلى امرأة فقدت بيتها وانتماءها وعالمها، وها هي بعد أكثر من سنتين ما زالت تبحث عن خطّة هرب، عن بلد جديد تبدأ فيه صفحة نظيفة. «أبكي بحرقة، عاد إليّ إحساس اليتم والخواء الذي سيطر عليّ بعد موت أمّي، حينها أدركتُ أنّه تمّ إلقائي من البيت إلى العالم الخارجي. من اللاوعي إلى الوعي، من الصبا إلى النضج الفكري». (ص110). حتّى والدة بشرى، المرأة المصريّة الجميلة التي تركت بيتها وأهلها وتبعت زوجها إلى دمشق، تظهر امرأة ضعيفة قرّرت في نهاية حياتها العودة إلى مصر، إلى ماضيها علّها تستعيد شيئاً ممّا تركته خلفها فتُصعق للنقص الذي تعاينه، للفراغ الذي نما من بعد رحيلها، للاختلاف بين مصرها ومصر الواقع. وقد يظنّ المرء أنّ نساء الرواية وحدهنّ يعانين وطأة الماضي، لكنّ رجالها أيضاً طاولهم ما طاولهم من بؤس وتعاسة جرّاء ماضيهم الذي لم يتعلّموا كيف يتفلّتون من قيوده. فناصر، الشاب الذي قرّرت بشرى الزواج منه بعد موت والدتها، شاب عانى الأمرّين وخسر إيمانه بالعائلة والحب وأصبح لديه رهاب فقدان الأحبّاء، وقرّر تحصين نفسه مخافة غدر الزمن عبر منع نفسه من حبّ بشرى أو السماح لنفسه بالتعلّق بها أو اعتياد وجودها. خاف فقدانها فرفض منحها قطعاً من ذاته، لم يحاول بناء بيت عائلي لأنّه خاف فقدانه، وهذا الخوف من معرفة السعادة ثمّ خسارتها سيحطّمانه شرّ تحطيم. فقد أدّت هذه الوقاية من الحب والسعادة إلى برودة في علاقتهما وطلاق بعد فترة زواج غير طويلة. ونجيب، صديق العائلة، يعيش في عالمه الخاص وسط صور كبار الفنّانين القدماء وأفيشات الأفلام بالأبيض والأسود وذكريات القاهرة العتيقة. يفوح بيته برائحة الماضي وكأنّه خارج من كتب التاريخ ومُلقى بين المباني الحديثة وضوضاء الشارع. يبقى نجيب رجلاً حزيناً وحيداً، يتذكّر ماضيه ويتحسّر على فرصه الضائعة. «نحن لا نملك مفاتيح أقدارنا. بل نمسك بأيدينا نسخاً وهميّة من خرائط نظنّ أنّها ستقودنا إلى الدرب الصحيح. وبعد أعوام كثيرة تضيع هباء، ندرك أنّنا كنا نمشي في عكس الاتجاه، وأنّ السعادة أو التعاسة محض هبة ليس للعالم الخارجي علاقة بها». (ص73). قد تكون هذه الجملة محور رواية عبدالرحمن، فجميع الشخصيات عاجزة عن السعادة، حتّى تلك التي مهّدت لها الحياة سبل السعادة ترفض الحلول وتقبع في بؤر العتمة والوحدة والبؤس. ليست السعادة أن توفّر الحياة للإنسان حاجاته ورغباته كلّها، السعادة هي قرار روحي داخلي، هي سلام يهبه الله أو القدر أو الحياة للإنسان فيكون هذا السلام حصنه المنيع وقلعته التي يهاجم المصاعب من خلف أسوارها. يخاف المرء عموماً من الموت، من التلاشي والاضمحلال، من المغادرة من دون ترك أثر أو ذكرى. لكنّ لنا عبدالرحمن تكشف خوفاً أكثر إيلاماً وخطورة، هو الخوف من الحياة. تكشف أنّ الموت هو مجرّد تغيير للأقنعة، لعبة ذهاب وإياب؛ لكنّ الحياة وحدها هي التي تثير الخوف، فالسعادة ليست أمراً بدهياً، هي هشّة بالمقارنة مع الوحدة وفجوات الماضي ووطأة الذكريات.