مكة أون لاين - السعودية قاعة ضخمة مساحتها مليونا كيلومتر مربع، المشاهدون تجاوزوا 28 مليونا، ستارة عملاقة تحجب خشبة المسرح عن شوق عيونهم، يومئ المخرج لإطفاء كل الأضواء، تصمت حتى «الكراسي» في الدجى، عجلات الستارة العملاقة تحدث صخبا في ظلمة السكون، الرقاب القِصار مشرئبة، إضاءة متقطعة تومض على خشبة المسرح بحركة دائرية خاطفة، يحصد المخرج بموجبها جلبة أصوات الجمهور الخافتة بتوقع ما يرون: (كرتون، فرامة، مقصلة، شواية، دبابة...). يصمت الجميع مرة أخرى عندما ينفتح باب قصي في مؤخرة المسرح اليسرى، يدخل شبح عملاق، يخفي بشاعته بالعلم السعودي، وتظهر على الخلفية شعارات متعاقبة (مجتمع متحد، شريكك النقدي، خيارك الأوحد، نفخر بقيمنا...)، يقف الشبح بجوار خزنة عملاقة في الوسط، يبتسم بتكلف، يحدق في الجميع، يركز نظره على الصف الأول متجاهلا ما خلفهم، يستفز تجاهله الآخرين، يقذفون بمقتنياتهم (أكياس فصفص/ ولاعات رخيصة/ و...) باتجاهه، يمنعها حاجز زجاجي سميك، ولا يعلمون كيف أصبح الصف الأول محاطا بالزجاج معه! يتقدم الوحش إلى الأمام ساخرا، يختبر مكبرات الصوت، ثم يدوي بصوته الأجش مركزا عينيه على الصف الأول: «مرحبا بكم أيها النبلاء، باسمي وباسم البنوك السعودية لقد صغنا العبارات التي ترونها من أجلكم أنتم فقط!!» يقف الصف الأول، يصفقون بحرارة، ثم يصعدون خشبة المسرح، يلقون نظرة على الجمهور العريض، يبتسمون، ينصرفون جذلى. ثم يمد الشبح يديه ويحكّ راحتيه ببعضهما طويلا، ويغمض عينيه، ويقول: أيها البائس: تشعر بالصدمة عندما تدخل الفرع الذي يخدمك، فتجد خمس نوافذ معدة لخدمتك، لا يعمل منها إلا اثنتان، فتتلقى الصدمة الثانية عندما تقترب من لحظة خدمتك، أن نبيلا يحمل بطاقة التميز وصل الآن، وقته أثمن من وقتك يا «وجه الفقر» فانتظر حتى يقدم المحترمون خدماتهم (للنبيل)، فمهما كان شكل لباسه، أو تسريحة شعره، أو ماركة شماغه، فهذا لا يهم، المهم الخانة السابعة في رصيده. ثم إنه لا يهم كونك حوّلت راتبك، أو قصمت ظهره بتمويل، أو تحمل بطاقة (مؤسلمة) فكل هذا لا يزيل غبار الفقر عن شحوبك. يتجمد الجميع، والغول يتساءل بسخرية مُرّة: بربك هل تظن أن نملأ تلك النوافذ بالموظفين؟ أم تتوقع خيالاتك أن يخصص البنك موظفا للنبلاء، حتى لا يضيع بعض وقتك التافه؟ يا عزيزي لو أراد المميزون مئات الموظفين لوفرناهم، ولخصصنا لهم فروعا فندقية بأكملها، أو أرسلنا موظفينا إلى مكاتبهم ومنازلهم، لكننا من خلالك أنت نقدم لهم طبق الشعور بالقيمة الذي يفوح شهيا بروائح حنقك، وبهارات تذمرك، وانفعالاتك التي يفرح بها النبلاء، وهم يرمقونك بنظرات الاختلاف والتميز، ويسيرون بخطى الهادئ الواثق، يسحقون أفاعي لعناتك وحقدك القديم. يوحي للجمهور بخروجه، ثم يلتفت بنصف جسده الضخم: «على فكرة: هل تعلم أن رسالة «مراجعة أقرب فرع» عبارة مقلقة لنا أكثر منك، لكن لو وفرنا لك كل الخدمات الكترونيا وهاتفيا، فإننا لن نستطيع صناعة الشعور بالعظمة للأغنياء، ويغمز ساخرا (الأغنياء بنقطة فوق النون وليست تحتها)!! فأنت المادة الرئيسة لصناعة هذا الشعور، ولن نفرط فيك، ستأتيك تباعا رسائل التمويل، والتمويل التكميلي، ورسائل الحصول على البطاقات. ثم يلتف بكامل جسده ويرفع سبابة التحذير «لكن إياك يا متحاذق، أن يذهب خيالك بعيدا فتنتظر رسالة (إعفاء من قسط شهر) لأنك منتظم في السداد، فلا فضل لك في الانتظام، وهل تستطيع المماطلة أمام تحكمنا في (راتبك)، أم ستفر من جبروت (سمة). كن عاقلا!! يرفع نظره إلى القاعة العليا المكتظة بالنساء، يقهقه ويتهكم بصوت أنثوي قبيح: «عزيزتي العميلة، يقولون إنك نصف المجتمع!! وماذا يعني؟ ألا يكفيك فرع واحد بثلاث موظفات لخدمتك؟ فماذا لديك أكثر من راتبك أو «حافز» أو «مكافأة الجامعة»؟ ولعلمنا العميق بشعور سيدات الأعمال الذي يزيد عن شعور الرجال بالتمييز فقد حرصنا على اكتظاظ الفرع بكنّ طيلة ساعات النهار!! يقف على حافة المسرح بوجه قاطع: «عملاءنا الكادحين: أحذركم من اتهامنا بعدم تدريب موظفينا على رقي التعامل، فنحن نبتعثهم إلى معاهد رفيعة المستوى تعلمهم فن التعامل (الاصطياد) لكننا نعذركم لأن حظكم جاء بكم في وقت يخلو فيه الفرع من النبلاء، فكان تعامل الموظف فظا لافتقاده رائحة عطورهم، فقدروا مشاعر موظفينا، فنحن نعذركم أحيانا لأن بعضكم لم يجرب رقي خدمة موظف التمويل أو بطاقة (مؤسلمة)، فالخبراء يرون أن حصول العميل (الحافي) على أكثر من ابتسامتين خلال ثلاث سنوات تسبب له متلازمة (الغنى الخيالي) فيبدد مدخراته، وهذا يؤلمنا. يدبر خارجا، وعند الباب يلتفت» آه نسيت، ثم يهز سبابته اليمنى، أيها البؤساء: دعونا من جلبة المزايدات و(المسؤولية الاجتماعية)، ندرك جشعكم، ونعلم مصلحة الوطن أكثر منكم». (يغمز بعينه اليسرى.. يتجرد من العلم.. يختفي في الظلام)!