الاقتصادية - السعودية تتقاطر أكثر دول العالم تقدما ورقيا إلى فنلندا اليوم. فنلندا ليست بلدا سياحيا. تكسوها الثلوج أغلب أيام السنة وصيفها بارد، قارص ممطر. صحيح أن البلد يملك صناعة متطورة وتقنية معلومات فائقة التطور. وهذا البلد ذو الخمسة ملايين نسمة يتفوق على بقية دول العالم في صناعة الأخشاب والورق وما يرتبط بها من مكائن وعدد دقيقة. هؤلاء الخمسة ملايين ليس لديهم عمالة أجنبية ولا خدمة منزلية ولا خدم لسياقة سياراتهم. الفنلنديون شعب خرج من مرحلة التخلف وفقر مدقع بالاعتماد على النفس. اليوم لوحده وبسواعده يبلغ إنتاجه المحلي الإجمالي نحو 280 مليار دولار بسعر الصرف. كتب الكثير عن المعجزة الفنلندية. والمؤلفون والاختصاصيون كما هو شأنهم غالبا ما يأتون بآراء ومواقف وأسباب مختلفة. بيد أن السواد الأعظم يتفق اليوم أن فنلندا كانت ستبقى دولة فقيرة هامشية لو لم تمنحَ التربية والتعليم بكل مراحله جل اهتمامها. وإن نظرنا إلى جداول البرنامج الدولي لتقييم الطلبة، الذي تعده وتقوم به منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، لرأينا أن فنلندا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي يظهر اسمها في قائمة الدول العشر الأوائل في العالم من حيث ذكاء واستيعاب وثقافة ومهارة تلامذتها وطلبتها. الحياة تتطور عندما نحاول الخروج من الأطر البالية والتقليدية. هذه الأطر كانت في يوم ما المعيار الأساسي لتطور المجتمع. ولكن بتقادم الزمن لا بد من اختبار أطر ثقافية وتعليمية وتربوية وحتى اجتماعية لمواكبة تطور المجتمع. التشبث بالأطر القديمة معناه أن المجتمع لم يتطور. وتطبيق الأطر القديمة والتقليدية معناه أننا نُجبر مجتمع اليوم على مواكبة الحياة في الزمن القديم الذي ولى دون رجعة. هذه نظرية قد لا يستسيغها البعض، وقد يراها البعض الآخر خطرا ويحاول جهده مستخدما شتى الوسائل لدحر أية محاولة لتجريب وتطبيق أطر جديدة كي تحل محل القديم الذي أكل عليه الدهر وشرب. ويتجلى تطبيق أطر جديدة بأبهى صوره في الشركات الغربية التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة. عدم البحث عن أطر جديدة لتقديم خدمة أفضل وأكثر تطورا وقبولا لدى المستهلك والعميل معناه الموت البطيء. والسبب واضح. الخصم والغريم والمنافس لن يستكين ويقبل بما هو موجود. عينه دائما على الريادة والتجديد والخلق من خلال البحث العلمي المستديم. علينا أن نعترف أن الأطر التكنولوجية تختلف عن الأطر التربوية والتعليمية والثقافية والقيم الاجتماعية. مع ذلك، لا نستطيع إلغاء التأثير الهائل للتكنولوجيا في الأطر التربوية والتعليمية والثقافية والاجتماعية. قد يكون تغير إطار أو تقليد تربوي أو ثقافي أو اجتماعي من الصعوبة بمكان، ولكن مهما تشبثنا بالقديم والتقليد، فالتغير حاصل لا محالة. هذه ربما مقدمة طويلة للموضوع الذي نحن بصدده، ولكن لا بد منها لأن الموضوع مهم وقد يؤدي إلى تغير شامل في الأطر التربوية والتعليمية السائدة في أغلب دول العالم اليوم. في صف تقليدي، يقف المعلم أو الأستاذ أمام الطلبة، يشرح لهم المادة وهم جالسون. في فنلندا اليوم يقف الطلبة أمام الصف وهم يشرحون المادة والأستاذ أوالمعلم جالس. يوزع التلاميذ إلى مجاميع وكل مجموعة تلقي ما في جعبتها من معلومات حول الظاهرة قيد الدراسة في الصف. تقليديا، التدريس يكون حسب المنهج الذي يتألف من مقررات أو مواد تدريسية. في فنلندا تطبق أغلب الثانويات اليوم أطرا جديدة، حيث التدريس حسب الظاهرة أو الحقل وما يدخل فيه من مواد ومقررات. والمعلم والأستاذ لا يلتزم بمنهج محدد يتم فرضه من قبل المؤسسة التربوية. المهم أن يبقى الأستاذ والمعلم والطلبة ضمن الحقل ذاته في مناقشاتهم. مثلا يقوم الطلبة بشرح ظاهرة مناخية في الصف استنادا إلى خرائط إلكترونية وهم يمرون على الدول والأقاليم في العالم. وفي الوقت ذاته بإمكانهم التواصل مع مراكز الأنواء الجوية لتمكينهم من قراءة الخرائط المناخية وشرح الظواهر المناخية المختلفة. كل طالب مجهز بأحدث حاسوب. والصفوف مجهزة بآخر ما استجد من التقنية ومنها سبورات إلكترونية. ولأن التدريس يدور ضمن الحقل والظاهرة، فإن درس اللغة الإنجليزية مثلا يبني على درس ظاهرة المناخ. هنا الطلبة يتحدثون بالإنجليزية وهم يمرون على عواصم العالم لشرح حالة المناخ ودرجات الحرارة. وبإمكانهم أيضا التواصل مثلا مع نشرة المناخ في قناة "بي بي سي" أو أي وسيلة إعلامية أمريكية أو إنجليزية. ولأن فنلندا تأتي في مقدمة الدول الأكثر تطورا من حيث التكنولوجيا، صار للبلد باع طويل في الألعاب الإلكترونية. المدارس اليوم مجهزة بأحدث الألعاب التعليمية والتربوية والثقافية وهي متاحة ومتوافرة للطلبة ومسلية في الوقت ذاته، وفي الإمكان استخدامها ضمن حصة الدرس. هناك الكثير الذي يمكن كتابته عن الأطر التعليمية الحديثة في فنلندا التي أزاحت عن كاهل الطلبة بعبع الامتحانات الفصلية والسنوية والعامة وعن كاهل المعلمين والمدرسين الحمل والمسؤولية الكبيرة التي ترافق تصحيح الدفاتر. وأنا أختم رسالة الجمعة هذه، خطرت ببالي الآية الكريمة من الذكر الحكيم: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".