العرب القطرية في السادس من يناير 2011، كتب مارك لينش في مجلة «الفورن بوليسي» عن المظاهرات في تونس، التي لم ينتبه لها الكثير في تلك الأيام، وفي مقاله هذا، كان أول من استخدم مفردة «الربيع العربي». بعد فترة قصيرة انتشرت هذه المفردة، وأصبحت مألوفة في العالم كله، وثبت الاسم، على عكس المسميات الأخرى، ثورة الياسمين، أو ثورة الغضب، أو ثورات يناير وفبراير وغيرها، التي لم يكن لها حظ قوي مثل كلمة «الربيع»، ربما لأن الأخير كان غيثاً بعد قحط، والمفردة وجدت مكانا ينتظر في قلوب السامعين. لكن اللحن الذي أطرب السامعين اختار أن يطول، والربيع المنتظر أخذ شكل العاصفة. والذين ادعوا وصلا بالربيع، وأنهم ومدارسهم وأحزابهم ومناطقهم هم من صنعوا الربيع وجلبوه، تبرؤوا منه اليوم، بعد أن لاحظوه أصبح «مغرماً» لا «مغنماً» في أذهان الكثيرين! عبر أربع سنوات، مرت أحداث مؤلمة، لم يتوقعها أكبر المتشائمين. أغاني الفرح، وبهجة الربيع العربي، تاهت بين «مد الأيادي» و «تسلم الأيادي». أصبح الربيع العربي ظاهرة صراع مجسدة، في الدول والأشخاص، وفي الجلادين والضحايا، وفيمن يحافظ على الوضع القائم ومن يطالب بتغييره. وطارت في الآفاق الدراسات والأبحاث التي تلاحق وتحلل هذه الظاهرة: صراع الربيع والنفط، الغرب ومؤامرة الربيع، الربيع في مواجهة الدولة العميقة.. إلخ. لقد كان الربيع باختصار، سيرة، فُتحت على أكثر من جبهة. ويلوم البعض اليوم مؤيدي الربيع، حين يخبر كيف أن أحداث الربيع العربي ولّدت المآسي العظمى. وفي هذا ربط ظالم. فأولا الربيع لم يكن مصنوعا ومرسوما من جهة محددة، حتى نوجه اللوم (أو المدح) له، بل هو نتيجة تراكمات وتداعيات لأحداث متنوعة، وظلمة الشعوب وفاسدوها هم أبرز سبب للثورات. ثانيا، تأييد الربيع العربي، ليس تأييدا للأحداث السلبية، بل هو تأييد لجماهير نزلت إلى الشارع وواجهت، فكان لا بد من صناعة موقف، إما إن تكون معها أو ضدها. ويخطئ كذلك، من يقارن الربيع بفترة أخرى، فيقول مثلا، انظر في السابق لم يكن لدينا هذا الكم من المشاكل والأزمات! فالمقارنة هنا لا تستقيم، فالوضع قبل الربيع العربي كان وضع «موات» وسكون لا حراك فيه، بينما الوضع بعد الربيع حراك وجدل إصلاح، ومحاولة تطور إلى الأفضل، ومجابهة المشاكل العميقة في العلن وبصوت عال. قال لي صديق مرة بفرح: أحمد الله أنّي رأيت الربيع العربي في حياتي، وكنت ممن شهدوا العرب، وهم لأول مرة، يصبح لديهم رئيس سابق، بلا اغتيال أو انقلاب. ولصاحبي بالتأكيد، كافة حقوق الفرح، ككل صاحب ضمير، اهتم لأحوال العرب، وكان مترقبا على الدوام للحظات التغيير. لقد كان التغيير المعنوي والثقافي أكبر من الأحداث السياسية التي تمت. دخلت مفردة الشعوب إلى الخطب السياسية وفي خطبة يوم الجمعة، ومجالس الناس أخذت تحكي عن الديمقراطية، وتسأل عن الدستور الفلاني، هل أُنجزت عملية كتابته أم لا. وصاحب الفكر «الجبري» الذي ملأ منابرنا وصحفنا بالقول إن على الناس الخضوع للاستبداد، لأنه قدر الله، أتى من يرد عليه أن الربيع العربي أيضاً قدر الله.. فاختر كما اختار عمر. ليست هذه المرة الأولى التي تحضر فيها مفردة الربيع، كان هناك «ربيع الشعوب»، و «ربيع براغ»، و «ربيع بيروت» وغيرها.. لكننا اليوم رأينا أن لمفردة الربيع العربي رنّة ونغمة وألقاً لم يماثلها فيها أحد. الربيع العربي، لم يكن مرحلة «حصاد»، بل مرحلة «بذر». كان مجرد تعديل وجهة وفتح للأبواب. كان المفترض ألا نستعجل النتائج، بل أن نبدأ رحلتنا تجاهها. فتح الأبواب يعني، مراجعات، ودروب جديدة على مستوى السياسة والمجتمع والتربية والفكر الديني، وكل ما يساهم في تشكيل المجتمع وصناعته. لقد مرت عبر هذا الربيع كافة أنواع المشاعر التي خبرها الإنسان، فحضر الفرح والحب والسعادة والخوف والارتباك والتشفي والكره والعداوة وغيرها.. المكسب الرئيسي تمثل في أن العرب أقبلوا على بعض، وعرفوا هموم بعض، وواجهوا مخاوفهم ومشاكلهم وجها لوجه، وأثاروا قضايا لطالما كانت مكبوتة. هل هو متعب أيضاً؟ نعم إنه مجهد ومتعب غاية التعب.. لكن الأمر يستحق. [email protected]