الاقتصادية - السعودية المتأمل لسياسات دول الخليج العربي يستقرئ منها انتهاجها طريقا قد لا يخدم مصالح شعوبها المستقبلية. فإلى جانب كونها تعيش بكامل احتياجاتها على مداخيل المصادر النفطية، فهي أيضا تسرف في ذلك إسرافا فاحشا. فليس لديها سقف للميزانيات ولا للدخل العام ولا للصرف على مشاريع قد لا تكون جوهرية وبعضها ليس له أي مردود اقتصادي ذي أهمية. وتنظر إلى الدخل النفطي، وهو المصدر الوحيد لديها، وكأنه سوف يدوم إلى الأبد. وهذا تصور خاطئ وقصور في الرؤية وتشجيع غير مباشر على المضي في رفاه الحياة. والمتابع للمصادر الإخبارية والإعلامية هذه الأيام، المكتوب منها والمسموع، يلاحظ كثرة الأحاديث والهرج والمرج عن تأثير نزول الأسعار على ميزانيات دول الخليج بوجه عام. وترتفع الضجة وتكثر الكتابات والتحليلات وتتشتت الآراء والاتجاهات، وكأننا على خطر من حدوث عجز مالي مزمن. ثم نتذكر أن لدينا من الفوائض المالية ما يكفي لسد عجز الميزانيات لبضع سنوات مقبلة. ولكن ليس هذا هو الدافع لكتابة المقال. فهناك أمر أكثر خطورة، ويتعلق بردود الفعل لهذا الحدث الذي قد يطول وقد لا يطول، فلا يأخذ حيزا كبيرا من الوقت. فالأسعار كانت مرتفعة نسبيا معظم أيام السنة الماضية. والسؤال الذي يشغل بالنا ويكدر علينا حياتنا، هو ماذا سوف تكون عليه الحال عندما ينخفض الدخل إلى أقل من النصف، مع هبوط مستوى الإنتاج بعد عقود قليلة؟ يزعجنا اليوم أمر بسيط، وهو احتمال حدوث عجز في ميزانيات بلغت من الضخامة مبلغا يفوق التصور. ونحن نعلم بوجود أموال مكدسة نتيجة للفوائض المالية التي كانت تزيد عن مستوى الميزانية خلال السنوات القليلة الماضية. وكان الإعلام خلال الأشهر الماضية ينقل أرقاما مفترضة للأسعار المتوقعة لبرميل النفط، ويسميها الحد الأدنى لتفادي عجز الميزانية. ونحن نتقبل هذه الافتراضات والتخمينات وما يتبعها من التعليقات، وكان ذلك هو أسوأ ما سوف يواجه مصيرنا. وننسى، أو نتناسى، أنه مقبل، لا محالة، زمن ينخفض فيه الدخل سنة بعد سنة ومن مستوى إلى مستوى أدنى نتيجة للنضوب التدريجي لثروتنا، وليس بسبب هبوط في مستوى الأسعار. وسوف يرافق تلك المرحلة ارتفاع كبير في تكاليف الإنتاج، ما يقلل من هامش الربح، أو صافي الدخل. فأيهما أكبر وقعا علينا، عجز بسيط في الميزانية أقل ما يقال عنه إنه مصطنع، أم نزول مخيف في كميات الدخل الأساسي للميزانية؟ ولنتذكر أن أعداد سكان الخليج تتضاعف كل عشرين عاما. والمياه الجوفية التي تمدنا اليوم بالحياة تنافس البترول في سرعة النضوب، ومع ذلك فاستهلاكنا لها ضعف استهلاك الشعوب التي تعيش على ضفاف البحيرات والأنهار. نكاد نجزم أن من الأمور التي تنقص شعوبنا هي غياب المعلومة الصحيحة عن طبيعة ومستقبل ثرواتنا النفطية. فكم من مواطن، مهما كان مركزه ومستوى تعليمه ومسؤوليته، يدرك أننا نسحب كل أربع وعشرين ساعة عشرات الملايين من براميل النفط من مورد ينقص ولا يزيد؟ تصوروا لو أن أحدنا أودع مبلغا معينا في البنك. وقرر أن يسحب من ذلك المبلغ قسطا شهريا ثابتا. هل سيظل باستطاعته أن يقبض المبلغ الشهري إلى ما لا نهاية؟ نترك الإجابة للقارئ الكريم. ولكنّ هناك فرقا كبيرا بين سحب مبلغ من حسابك في البنك وبين سحب ملايين البراميل من المكامن النفطية. فما تستلمه من البنك لا يكلفك أكثر من دفتر الشيكات. أما الإنتاج النفطي، إلى جانب كونه استنزافا للمخزون الأرضي محدود الكمية، فالتكلفة ترتفع مع استمرار إنتاجه حتى تصل إلى مستوى قد لا يكون المحصول اقتصاديا. فهل يصح أن نظل أمة مستهلكة ونتقدم إلى مصيرنا المجهول بخطى ثابتة، وكأننا نساق إلى حتفنا؟ وهل لا مللنا من العيش على أكتاف الدخل النفطي الذي سوف يودعنا بصدمة عنيفة قد لا نشعر بها إلا بعد أن نفقد الأمل في ترتيب وضعنا الاجتماعي والاقتصادي؟ ومن اللافت للنظر أن دول الخليج، دون استثناء، وهي تعيش على ما يدره عليها نفطها غير المستديم، قد ابتليت بوجود عشرات الملايين من العمالة الوافدة التي أصبحت تشاركها دخلها وتنهك اقتصادها. نحن نظن، خطأ، أنهم يعملون لصالحنا ويساعدوننا في تنفيذ مشاريعنا، وهذه هي العلة. هم أيضا، إلى جانب ذلك، يتفننون في خدمتنا حتى أصبحنا عالة على أنفسنا. صحيح أنه سوف يأتي اليوم الذي لن تشاهد فيه على أرضنا وبيننا أجنبيا واحدا، ولكنه اليوم الذي نحن نحذر منه. إنه نهاية الدخل الرخيص، أو هو، بالأحرى، مصاعب الحياة على ظهر هذه الصحراء. لقد سلمنا أمورنا كلها للعمالة ولم نبق ما يشغل أوقات شبابنا. سلمنا لهم الدكاكين على طبق من ذهب، وهي نفسها ذهب. وفتحنا لهم أبواب الوِرش، يعملون فيها قدر استطاعتهم من ساعات العمل، لأن الأرباح لهم. وهم الذين يقومون بجميع أعمال الإنشاءات من الألف إلى الياء، أكثر من أربعة ملايين وافد. لأن أعمالها فيها مشقة على فلذات أكبادنا. وحتى محطات البنزين التي لا تتطلب مهارات معينة وتقبل أي مستوى من التعليم، باركنا لهم فيها. ماذا بقي لشعوبنا من الأعمال المهنية والحرفية، أسوة بشعوب الأرض؟ أليس وجود هذا الكم الهائل من العمالة غير المنضبطة ما يثير القلق لدينا ويضر بمستقبل أجيالنا؟ أين التخطيط لما بعد النفط، عندما لا نجد ما نعيش عليه؟