التقرير الكندية مارسنا في السنوات الماضية نقدًا لمدرستنا الدينية التي ترعرعنا فيها ونهلنا من علومها، وروينا من مشايخها، وكان منطلق هذا النقد من باب النقد الناصح والذي يحسب نفسه أنه صادق في منطلقاته وفي غاياته، بعيدًا عن أهواء مصلحية أو أغراض شخصية، وكما تدل عليه مفردة "نقد" فإنه يحاول إخراج المعدن الأصلي من الشيء وإزالة المغشوش والزبد الشائب في المعدن، وذلك لأن عملية النقد عملية مستمرة لا تقف على زمان بعينه، فهو مثل استمرارية السيل في تنظيف الأودية من الزبد، بل ومثل عملية الصهر بالنار للمعادن واستخراج الذهب والفضة للحلية، أو الحديد والنحاس للمتاع، وكلا المثلين يعبران عن عملية النقد الدائمة كما في قوله تعالى "أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدًا رابيًا، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال". تنطلق الليبرالية، التي أنا بصدد نقدها، من منطلقات دينية؛ بل ونفس شيعي مبطن، أولها وأهمها: قضية الخلاف الذي حصل بين صحابة رسول الله، حيث جعلت من هذا الحدث، الذي كان يجب أن يقرأ بشكل عادي، حيث يتقبل القراءة والتأويل سحب العصمة من الجميع، مع إمكانية ترجيح الصواب في طرف. ولو درسنا هذا الحدث بمناهج قديمة أو حديثة تتأمل فيه وتدرس أطرافه، لعلمنا وقررنا عدة أمور: أهمها أن تجربة الصحابة لا تعد مثالًا مطابقًا لرسالة الإسلام، فما كان من تجربتهم موافق للوحي صححناه، وما خالفه نقدناه وطرحناه، ثم إن الصحابة لم يأخذوا بالأسباب التي تمنع من وقوع الخلاف بل لم يهتدوا إليها، وهذا الأمر قد نفهمه بأثر رجعي، بمعنى أنه يمكن لنا أن نفسر الحدث بعدة معانٍ لاحقة (إلى أن نصل لعدم التحديد في التفسير) فليس حدث (الاقتتال بينهم) يقف عند تفسير واحد، ويمكن لنا أن نعرف أيضًا أن سبب الاقتتال الذي حصل ليس دينيًا خالصًا بل لا يخلو بشكل قاطع من أهواء دنيوية، ودليلي عدم عصمة أحد من البشر إلا الأنبياء فيما يبلغون به عن الله. هذه الليبرالية (المبطنة بنفس ديني) استثمرت بل واستغلت حدث الفرقة والخلاف والاقتتال بين الإمام علي -رضوان الله عليه- ومعاوية -غفر الله له- في أن تجعلها محل صراع يعاد صياغته في الزمن الحاضر بأشكال مختلفة، ليتم قراءة الأحداث السياسية المعاصرة في المنطقة من خلاله، طبعًا ليس حديثي هنا عن العقائديين من الشيعة أو متطرفي السنة، فهم دائمًا يقرؤون بشكل ساذج وبسيط الأحداث من منطلقات دينية غيبية ابتلائية لا عقل ولا علم ولا اجتهاد جديد فيها، حيث يوجبون على أتباعهم قراءة الأحداث دائمًا بتفسير واحد مغلق! ومن يفسرها بطريقة جديدة قد يخرج من مللهم! لكن حديثي ونقدي هنا لتيار يزعم أنه داعٍ للحرية بل وداعٍ لتقبل الآخر يجعل من القرآن مرجعه وملاذه الأخير (طبعًا بطريقة تفسير وضعية علموية ساذجة) ثم يمارس التفسير المغلق لحدث الفرقة والاقتتال بين الصحابة ليجعله منارة تأويل للأحداث السياسية المعاصرة في سياق الخلاف القديم بين الصحابة، هذا الطرح رأيناه في فكر الباحث التاريخي متقلب المزاج الأستاذ حسن فرحان المالكي، حيث ضخ في الفترة الأخيرة فكرًا دينيًا مبطنًا (كتفسيره لأحداث الماضي وتفسيره للقرآن) ثم في ضوء تفسيراته لذلك الخلاف، يتم تحليل وقائع الحاضر السياسي، فما يحصل من خلاف سياسي وأحداث فتن في سوريا هي دائمًا معلقة بإشارات رمزية للماضي، فمثلًا في تغريدة شهيرة نسب حسن فرحان أبناء الشعب السوري الذي ذاق من ويلات النظام السوري إلى أنهم أحفاد يزيد! في إشارة لاستحقاقهم القتل والعقوبة. وفي هذا الإطار تجد أن الثورة السورية، على معارضتنا لبداية شرارتها حفاظًا على أمن الناس وسلامتهم وعاقبة أمرهم، إلا أنها اشتعلت فلم تترك لأهل الحلم والنهى موقفًا ولا رأيًا، فمن انخرط فيها حفاظًا على أهله وكرامة داره لا يوصف بأنه إرهابي وداعشي، ثم إنه فيما بعد دخل في هذه الثورة أناس أفسدوها بفكرهم وتطرفهم وانحرافهم من التيارات السنية المتطرفة، إلا أن المشكلة -مع هؤلا المتلبرنين- لا تكمن هنا، أعني في تمييزنا بين معتدلين ومتطرفين في الثورة السورية، بل تكمن في ثلاثة أمور: أولا: أن يكون النظام السوري بل بشار الأسد بطلًا قوميًا ورئيسًا شرعيًا حتى هذه اللحظة في نظر الليبرالية المريضة، رغم ذبحه وسفكه للضعفاء والنساء والأطفال (بأعداد فلكية ورقمية ووحشية لم ير لها البشرية نظير في القرن الأخير). ثم ثانيًا: أن يكون كل المنخرطين في دفع ظلم هذا النظام المجرم داعشيين وقتلة، دون تمييز، بل ويستحقون في نظر أخينا الطبيب بندر قدير للرمي ببراميل الأسد، لنسف الإسلام السياسي المسلح، ثم ثالثا: يكال المدح لحزب الله، كحزب مراع لحقوق الإنسان وحزب ناعم، لم يتورط بإهراق الدماء؟! بل المضحك ألا يعتبر هذه الحزب العقائدي الخرافي من ضمن أحزاب الإسلام السياسي المذمومة، وكأنه حزب تسامحي ديمقراطي إسلامي! بل وكأنه ليس حزبًا يقود أتباعه كالرعاع تحت سلطة الولي الفقيه، كمعارضة حقيقة لمبدأ واحد لا يعارض فيه العلماني ولا المسلم المتمسك بهداية الكتاب والسنة؛ ألا وهو تحرير الإنسان من الإنسان! هذه الليبرالية المريضة التي ضخت في واقعنا بؤسًا جديدًا على بؤس التيارت الدينية المتعصبة؛ متلفعة بنفس ديني (بل بهوى شيعي مبطن) قام بقيادته أنصاف المثقفين الذين على الأقل نحسن الظن في نواياهم، لذا فمن أقل الأوصاف التي يمكن أن نطلقهاعليهم أنها تيارات ليبرالية مريضة تتوسل مناهج سقيمة في قراءة التاريخ بل وفي قراءة الواقع، وقبل ذلك في قراءة النصوص الدينية التأسيسية. العجيب أن هؤلاء القوم من الليبرالية المريضة تعتبر كيل المدائح لبشار لا يعد من قبيل التطبيل والخيانة للوطن، بل هو رأيًا محضًا منطلقًا من عقيدة (ثنائية الوهابية أبناء يزيد، والشيعة أحفاد الحسين= هذا باطن تفكيرهم الديني الذي تطلقه فلتات ألسنتهم)! لأنهم لا يريدون من بشار دنيا يصيبونها، بينما مدح حاكم من حكام الخليج يعتبر عكس ذلك! ثم تعتبر جرائم حزب الله التاريخية وحتى الآن في سوريا مغفورة ومرحومة، بل لا تعتبر من ضلالات اتجاهات الإسلام السياسي، بل كأنها حزب يحمل في جعبته الحقوق الطبيعية للإنسان والتعددية ووو، مع أنه متورط عن طريق عناصره العسكرية بكثير من الجرائم التي أظهرها مقتل الرئيس رفيق الحريري رحمه الله، باني النهضة للبنان الحديثة، بعملية اغتيال وتفجير بشعة شملت الكثير من الأبرياء! غير جرائم الحزب في سوريا، وتدخله بشكل طائفي واضح لا غبار عليه! ثم هو ممثل لدولة إيران التي لا أدري هل يعرفون مستوى اعترافهم بحقوق الإنسان السني عندهم؟! هذه هي الليبرالية المريضة التي يجب أن تعالج نفسها فكريًا، قبل أن تعالج غيرها، وهي مع ذلك يجب أن تقف في حدود حريتها بعيدة عن التحريض على قتل الأبرياء في سوريا أو في اليمن أو في غيرها؛ فممارسة حرية الرأي حق ما لم تصل لدرجات واضحة من التحريض والاستفزاز لمشاعر الكراهية والاعتداء بين الطوائف. ليس من الواجب علي في تسليطي الضوء هنا على هذا الاتجاه، أن أبريء نفسي واحلف لهم بأنني دائم النقد على التيارات السلفية الجهادية والنسخة الوهابية المتطرفة، وكذلك بشكل خاص الوليد المشوه المسمى (بداعش) فهذا أمر معروف في كتاباتي كثيرًا، لكن المشكلة في من يزعم التحرر من القيود المذهبية ثم تجده مستبطنًا التمذهب حتى النخاع! ويستخدم التضليل في التحرر منه متى شاء ويرجع إليه متى شاء؟!