د. أمين ساعاتي الاقتصادية - السعودية مع أزمة أسعار البترول وتأثيرها المباشر في إيرادات الدولة، فإن كثيرا من المشكلات تطرح نفسها أمام الإنسان السعودي، ومن أهم هذه المشكلات مع انخفاض أسعار البترول قضيةُ التعليمين الأساسي والفني؛ لأن التعليمين الأساسي والفني هما الأمل الذي تتطلع إليه الدولة لتعويض النقص في إيرادات البترول وفي غيره من الموارد الطبيعية. فالتعليم- بالقطع- مورد بشري مؤثر في الاقتصاد الوطني، والدول التي تطلق على نفسها دولا ناشئة، ليست دولا بترولية، وإنما دول بنت ثرواتها على الموارد البشرية واقتصاد المعرفة، ونذكر على سبيل المثال كوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا والبرازيل والصين والهند. دعونا نذكر الحقيقة المرة، وهي أننا إذا أحصينا المبالغ التي تنفقها الدولة على التعليم الأساسي والفني طوال ال50 عاما الماضية لألفيناها أرقاما فلكية، بل أرقاما خيالية، أي أن الدولة لم تقصِّر في رصد الأموال من أجل تعليم الناس. لكن لو طبقنا نظرية "التكلفة والعائد" على التعليم الأساسي والفني، لوقفنا على نتائج مخيبة جدا للآمال، فالجامعات تشكو من مستويات الطلاب الذين يلتحقون بها، وسوق العمل يشكو - بدوره - من أفواج الطلاب الذين تخرجوا في الجامعات، فالمال السخي صرف على التعليم بغزارة، ولكن العائد ضعيف إلى حد كبير. إن المشهد في سوق العمل يبدو وكأننا لم نعنَ قط بالتعليم الفني ولا التدريب المهني، على الرغم من أن التعليم الفني والتدريب المهني كان وما زال في صلب السياسة التعليمية والتدريبية للمملكة، واحتل التعليم الفني والتدريب المهني شطرا كبيرا من اهتمامات الحكومة، وانشغال المجتمع طوال ما يقرب من نصف قرن. والمشكلة تصل إلى درجة الذهول إذا قرأنا أرقام الميزانيات التي خصصتها الدولة للتدريب المهني والتعليم الفني منذ 50 عاما حتى اليوم. لقد صرفت الدولة مليارات المليارات من الريالات وبسخاء شديد من أجل بناء معاهد وكليات بمواصفات الدول المتقدمة التي تخرج كوادر وطنية تقود ملحمة الثورة الصناعية والفنية. لقد كان الجميع يتوقع أن تبني المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني بميزانياتها المستقلة وانفرادها بسلطات مطلقة، صرحا من الكوادر الفنية السعودية القادرة على المضي قدما لتحقيق برامج ومشاريع التنمية المستدامة، بل أكثر من هذا، كنا نتوقع أن تكون مخرجات المؤسسة بمستوى مخرجات المعاهد نفسه في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوربا واليابان وكوريا. بمعنى؛ كنا نأمل أن يكون الفني السعودي بنفس مستوى ومهارة وإنتاجية الفني الأمريكي والفني الياباني والفني الأوروبي والفني الكوري. وإذا عدنا إلى الصحف في سنوات غابرة، عند افتتاح المعهد الملكي، أو افتتاح الكليات الفنية، أو مراكز التدريب المهني، فإننا سنقرأ تصريحات صحافية للمسؤولين يقولون فيها إن معايير التخرج في معاهدنا هي نفس معايير تخرج أكثر الدول تقدما في العالم، لكن – مع الأسف - حينما نواجه واقع سوق العمل السعودي اليوم، نجد أن إنتاجية ومهارة العامل السعودي "هذا إن وجد" في أدنى المستويات مقارنة بإنتاجية ومهارة أي عامل في أي دولة أخرى. إن استغراقنا في البيروقراطيات حجبت عن رؤانا التنقيب عن الثروات الحقيقية، وهي ثروة الموارد البشرية.. الثروة الأغلى من البترول، ولو تنبهنا إلى ثروة الموارد البشرية قبل 50 عاما، وأعطيناها حقها من الاهتمام، لكنا اليوم في مصاف الدول المتقدمة. إن المواطن السعودي ابن من أبناء هذه الأرض الطيبة المباركة التي أنجبت القيادات التاريخية العظيمة التي دارت الدنيا، وأسست الدول العظمى، وأسهمت في بناء الحضارات الإنسانية، فظهر منها السياسيون وبناة الأمة والأطباء والمهندسون والفلاسفة والاقتصاديون والأدباء والشعراء حتى العمال والصناع والتجار الذين كانت إسهاماتهم ركيزة غالية في بناء صروح الحضارة الإنسانية. إن المعاهد والكليات الفنية ومراكز التدريب المهني مراكز تشع منها أنوار التقدم، ومعاهد تخرج الكوادر التي تحقق التقدم وتصنع الطفرات وتجلب الثراء، أما الجامعات والمدارس التقليدية، فإنها تخرج الكوادر البيروقراطية التي تسير أمور العمل، وربما تضع أمامه كتلا من الروتين المعرقل للإنجاز، ولذلك كل الدول المتقدمة لم تصبح دولا متقدمة إلا من خلال معاهدها وكلياتها الفنية، وكل الدول المتخلفة أو النامية لم تصبح دولا نامية إلا من خلال كلياتها ومدارسها التقليدية. وأرجو ألا يكون مستغربا أمام واضعي السياسات التعليمية والمهنية في المملكة العربية السعودية، أن بعض المؤسسات في الدول المجاورة خارج دول الخليج بدأت تعالج بالبطالة المستشرية في بلادها عن طريق وضع برامج تعليمية ومهنية تلبي طلبات سوق العمل في دول الخليج، وأنها باشرت في دعوة شبابها إلى الالتحاق بهذه البرامج التي تلبي كل شروط الطلب في سوق العمل الخليجي، وستقفز هذه الكفاءات المدربة على الوظائف في السوق الخليجية قبل أن يصل إليها الإنسان الخليجي المدهون بدهان الكسل والتقاعس. إنني أرجو أن يتخذ مجلس الوزراء الموقر قرارا بتشكيل لجنة على أعلى مستوى؛ لإعادة هيكلة التعليمين الأساسي والفني، وبغير إصلاح التعليم لن نستطيع أن نؤسس لاقتصاد المعرفة الذي نحلم به.