عبدالعزيز الخضر مكة أون لاين - السعودية عند التأمل الطويل لكثير من أطروحات الفكر الإسلامي المعاصر، والآراء الفقهية يجب التنبه للمؤثرات المعاصرة، وليست القديمة فقط في القرون الأولى، التي أثرت على اتجاه الرؤية، وطريقة التفكير فيها، ولماذا أصبحت هناك حساسية لهذه القضية أو تلك. هناك عدد كبير من القضايا العصرية التي كان أقوى مؤثر فيها هو ظروف البدايات والأجواء التي طرحت فيها في القرن الماضي، في مسائل سياسية واجتماعية وثقافية. ويمكن عرض الكثير من الأمثلة لإشكالية هذا التأثير، وعدم إدراك البعض لتغير المعطيات الزمنية، وتطور الأفكار والمعلومات في كل مسألة يتم تناولها خلال عدة عقود. وللأسف ما زال البعض يعيش في ذهنية مرحلة عشرينيات القرن الماضي وظروفها وأجوبتها، وخلقت حصارا ذهنيا لرؤية المسلم لأزمات عصره ومرحلته. حيث تنمطت تلك المحاولات الأولى وفق ظروفها في ذهنية العديد من المثقفين الإسلاميين، وطلبة العلم الشرعي، والوعظ الديني، وأصبحت رؤى محددة يدافع عنها بشراسة، وكأنها مسلمات تعبر عن القيم الفاضلة، وتحمي عالمنا الإسلامي من الغرب وشروره. وقضية تحديد النسل إحدى هذه الأمثلة، التي تشكلت رؤيتها وفق نمط متقارب في طرحها منذ اللحظة التي أثيرت فيها مع بدايات القرن الماضي. وفرضت تصورات البدايات نفسها على كثير ممن تناولها وأفتى فيها لاحقا، بالرغم من أن شكل القضية اختلف. فرؤية بدايات القرن الماضي ليست كما هي الآن في بدايات هذا القرن، حيث أصبح العديد من الدول الإسلامية أمام مأزق حقيقي في مسألة السكان، وتأثير ذلك على التنمية، وأصبحت الكثافة السكانية أحد الأعباء المخيفة للنخب العاقلة في إحساسها بالمسؤولية تجاه مجتمعها، وتخطيطها للمستقبل. كان هذا الخوف من الانفجار السكاني في بدايات القرن خوفا متوقعا، في زمن كانت هناك معدلات الوفيات عالية، وقلة سكان، ولذلك كان البعض يرى أنها مؤامرة غربية، واستعمارية للسيطرة على عالمنا الإسلامي. فاستمرت المقالات والدراسات، والآراء في هذا الاتجاه، وكأن هؤلاء لا يريدون أن يفكروا معنا بالمشكلة التنموية كما هي في حقيقتها الآن، فالحديث عن التنمية دون الحديث عن السكان والسيطرة عليه مجرد عبث لفظي، فجزء من تقدم وقوة الغرب هو في هذا التخطيط للمستقبل. لماذا لا يضع هؤلاء شتم الغرب ومؤامراته في ملحق خاص بكتاباتهم وأطروحاتهم، ويفكرون قليلا بالمشكلة التي لم تعد مجرد توقعات، وإنما نشاهدها أمامنا الآن. عند متابعة بعض ردود الأفعال مع نقاشات مجلس الشورى الأخيرة بشأن وثيقة السياسة السكانية، كان المثير بالنسبة لي وأنا أطلع منذ الثمانينات على ما يطرح فيها، ليس هو الرأي ذاته الذي يتم تبنيه والدفاع عنه، وإنما زاوية الرؤية، وأسلوبها المتقادم جدا والمنتهي صلاحيته في رؤية الأزمة الحضارية التي تواجه المجتمع المسلم المعاصر. فمعطيات ثلاثينيات القرن الماضي ليست معطيات بداية هذا القرن.. بمكتشفاته وتطوراته الطبية. وحال بعض الدول الإسلامية في هذا الزمن مع إشكالية السكان ليست كما هي قبل مئة عام. وقد رأينا فعلا تأثيرها على خطط التنمية في أغلب دول العالم العربي والإسلامي، وقد تحدث الكارثة لدول أخرى إذا لم تتنبه لها مبكرا. فالتفكير بالقضية يجب أن يكون وفق محدداتها في هذا الظرف التاريخي، وتأثيرها على تطور عالمنا الإسلامي، وليس بالخروج عن الموضوع إلى تنميطات خطابية مكررة، وكأنه لم تستجد حقائق واقعية في القضية، ولهذا تجد في كثير من المراجع، والمؤلفات والفتاوى التي ظهرت تشير إلى قضية أساسية وهي تآمر الغرب، وأن دعاة هذا القول بتحديد النسل تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين «حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعمار أهلها» كما ورد في فتوى اللجنة الدائمة في منتصف السبعينات واستند إليها مجمع الفقه الإسلامي. القضية ليست هل يوجد تآمر غربي أم لا، ولست من أنصار النظر إلى الغرب كقطة أليفة، وأنه يحب الخير لنا. في هذه المرحلة يجب أن تواكب الرؤية والتصورات المتغيرات التي حدثت فعلا، وأن يتم التعامل مع أزمة الإسكان كمشكلة تنموية خاصة بنا، وليس باستحضار الغرب، والهروب عن حقيقة الأزمة. وإذا كانت الآراء الفقهية تسامحت مع ظروف الأم في تنظيم النسل خوفا عليها، أو من أجل التربية، فلماذا لا ينتقل هذا الخوف على الأم الكبرى المجتمع نفسه، عندما تظهر التطورات التاريخية والمعطيات مسارا مخيفا.. في بلدان قد تجد صعوبة مستقبلا في تأمين حتى مياه الشرب، ولا تملك حتى الآن مقومات الحياة بدون قطرات نفط.