الاقتصادية - السعودية بعد اشتراط دفع 30 في المائة من قيمة العقار للحصول على التمويل العقاري، تكررت كثيرا عبارة تقول: "لا يملك معظم السعوديين من المدخرات ما يعادل 30 في المائة من قيمة المسكن المناسب". كانت الأخبار التي تتحدث عن تدني طلبات التمويل المستوفية للشروط أكبر ما يدعم هذه العبارة. ولكن إذا تجاوزنا تضخم أسعار الوحدات العقارية لوهلة، سنجد أن هذه العبارة تثير لنا أمرا مهما، متى يجب أن تصل مدخرات المواطن إلى ما يمكنه من إدارة شؤونه المالية والحياتية باقتدار؟ كم يجب أن تكون قيمة هذه المدخرات وكيف يصنعها؟! تقول القاعدة المتعارف عليهاRule of Thumb، يجب أن يبحث الفرد عن عقار يعادل قيمة دخله لفترة سنتين ونصف، وهذا يجعل تملك المسكن مستحيلا لمعظم السعوديين حتى لو افترضنا جدلا أن معدل رواتبهم يصل إلى عشرة آلاف ريال. ولكن خلافا للحديث الذي يتمحور عادة حول أهمية السيطرة على تضخم واحتكار العقار- وهو حديث مهم - تضاعف هذه الحقائق من المهام الادخارية للمواطن وترفع من تأثير سلوكياته المالية في حياته وتجعل تفريطه في الضبط المالي الشخصي خطيرا جدا على مستقبله ومستقبل أسرته. حتى في الدول الغربية، يذكر المختصون أن القاعدة أعلاه لا تعمل في فترات التضخم وارتفاع الأسعار. تتحول حينها قيمة المسكن المناسب إلى ما يعادل أربع سنوات من الدخل، ولكن هذا أيضا بعيد عن متناول معظم المواطنين خصوصا في المدن الكبرى. المهمة صعبة، ومع التطورات السلبية لعاداتنا الاستهلاكية تصبح أصعب بكثير. المدخل المؤثر هنا لا يبدأ فقط باتباع نصائح التخطيط المالي والادخار التقليدية - وقل من يتبعها بيننا - كتوفير ثلث الراتب شهريا والسيطرة على المصاريف وتحديد الأهداف المالية القصيرة والمتوسطة والطويلة الأجل والبعد عن الدين، بل هناك مجموعة من المدخلات المهمة جدا التي لا يلتفت إليها معظمنا. على قمة هذه المدخلات إعادة هندسة مصادر الدخل واستغلال فرص زيادة الدخل المتاحة محليا، التي قد لا تتاح في أي مكان أو زمان آخر. بكل بساطة، من لا يستغل ظروف ارتفاع الأسعار فسيصبح هو المستغل. من لا يبع فسيشتري، ومن لا يرفع من قيمة ساعة أدائه فسيضطر لاحقا إلى أن يدفع هذه التكلفة بطريقة أو بأخرى. من يجلس في منزله ويضيع وقته دون كسب يدفع في الحقيقة ثمن الفرص البديلة، تلك الفرص التي يستغلها الآخرون ليتحسن أسلوب حياتهم وتسوء ظروفه هو. نشاهد من حولنا عديدا من قصص النمو الفردي التصاعدي الذي يتحول فيه البعض من مؤدين لأعمال بسيطة جدا إلى قادة مبدعين ومؤثرين، وبكل تأكيد تتحسن مداخيلهم تبعا لذلك. إعادة هندسة الدخل الفردي تعني أن نفهم معادلة الكسب والحياة؛ هي معادلة بقاء "اقتصادية" نختار في بنائها جانبا واحدا فقط، جانب الدفع أو جانب التسلم! المدخل الأول والأهم لأي سياسية ادخارية هو وجود ما يمكن ادخاره، وهذا يعني صنع ما يكفي من الدخل. صنع الدخل بطريقة متواضعة (كالرضا براتب متدن في وجود إمكانات كامنة تسمح براتب أفضل) مع العادات اليومية السلبية تجعل الفرد يغرق في الفوضى المالية والحياتية. وإذا رافق هذا التواضع استخدامه تمويلا قاسيا وطويل الأجل، يصبح الفرد غارقا في بحر من الحدود والأربطة التي توثقه بشراسة خلال أهم عقدين أو ثلاثة عقود من حياته، عقود الإنتاجية والنشاط والتمتع بأسلوب الحياة التي يريد. يطلق في عالم الأعمال مصطلح التكلفة الغارقة Sunk Cost على التكاليف التي يتم تكبدها ولا يمكن استعادتها ويستمر تأثيرها لفترات طويلة. تواضع الدخل الفردي مع العادات السيئة وربما بعض الدين المستمر يجعل الشخص غارقا للأبد؛ هو يظن أن المشكلة بدأت أساسا من الظروف التي لا يد له فيها. نعم، للظروف دور كبير وأشكال الظلم من حولنا تستحق الحذر والاحتراز، ولكن في النهاية لقراراتنا الدور الأكبر في مصائرنا التي نعيش. يظن البعض أن هندسة الدخل – أو إعادة هندسته – تنحصر في القيام بمشروع جانبي خارج أوقات الدوام. والحقيقة أن هذا مجرد اختيار ضمن عدة اختيارات، يدعيه الكثيرون ولكن لا يقوم به ولا ينجح فيه إلا القلة. التأهيل الذاتي لوظيفة جيدة من هندسة الدخل، والتطوير الوظيفي أثناء العمل من هندسة الدخل، وشجاعة ترك الوظيفة لأخرى أفضل، والتدريب المبكر للأبناء والأسر المنتجة، واستثمار المدخرات بعقلانية، حتى تغيير مكان الإقامة يصبح من هندسة الدخل أحيانا. من المهم ألا يشغلنا الحديث عن فرصة تطوير قدراتنا الإنتاجية، حتى لو تحدثنا بالحقائق وأحسنا النقد والتحليل. من المهم أن يرتكز عطاؤنا على إعادة ترتيب المدخلات المالية وتنميتها، فهذا ما يجعل الفرد أكثر قدرة على المقاومة والصمود. أول من يتأثر بالدورات الاقتصادية – العادلة وغير العادلة – المعرضون للديون والآخرون الأقل هشاشة، الذين لا يجنون ما يكفي من الأموال ولا يملكون المهارات التي تمكنهم من ذلك.