العربي الجديد اللندنية لم أتفق يوماً مع نظريات الثقافة السياسية التي تعتبر أثر القيم الاجتماعية السائدة على السلوك السياسي عاملاً رئيسياً في حسم مسألة نجاح التحول الديمقراطي أو فشله. وكنت قد عالجت الموضوع، في فصل كامل في كتابي "المسألة العربية" (2007)، والذي أكدت فيه أنّ ثمة استثنائية عربية، ولكن ليس على مستوى الثقافة الديمقراطية، بل على مستوى تطور العلاقة بين الأمة والهوية القومية، والذي يؤدي عدم حسمها إلى تفتيت الكيانات الوطنية القائمة، ما يساهم، بطرق متعددة، في عرقلة التحول الديمقراطي، لأنه يكرّس السلطان (وليس الدولة) كضمان لوحدة الكيانات السياسية، في مقابل صراع الجماعات ما تحت القومية. أفرد ذلك الكتاب فصلاً لموضوعة الثقافة السياسية، جاء فيه أنه إذا كان للثقافة السياسية من تأثير فقد ازداد بسبب ولوج قطاعات واسعة من الجماهير عالم السياسة، ولأن الإعلام الجماهيري ساهم في ذلك. ويتجاوز دورها في الوطن العربي دورها في مرحلة نشوء الديمقراطية في أوروبا، لأن الجمهور الواسع في الأخيرة كان محروماً من المشاركة. وهذه من معضلات التحول الديمقراطي في العالم الثالث، فالمطلوب من الناس فيه أن تكون أكثر ديمقراطية في ثقافتها، منها في مهد الديمقراطية عند نشوئها. وحتى في بلادنا، تبقى ثقافة النخب عاملاً أكثر أهمية من ثقافة الشعب في عملية التحول. وغياب ثقافة ديمقراطية لدى النخب العربية هو العنصر الأهم في موضوعة الثقافة السياسية في البلاد العربية. لقد تصرفت الشعوب العربية كصاحبة مصلحة مباشرة في الحقوق المدنية، مع إشكاليات واضحة في الموقف من الحريات. وقد أجّجتها النخبة. فمصالح الأخيرة وثقافتها هي العامل الرئيسي في صياغة الخطاب، وفي مخاطبة الجموع بين توجيه الناس أو تخويفهم، وبين إقناع الناس أو تحشيدهم، وبين ترشيد مواقفهم أو مخاطبة غرائزهم. وشاركت غالبية الناس في بداية عملية التحوّل بتبني شعارات الثورات المتلخصة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وبالتوجه، بإخلاص وأمانة، إلى صناديق الاقتراع، حين سنحت لها الفرصة، وإذ أيقنت أن أصواتها مؤثرة، وإرادتها لن تزوّر. إن الذي لم يقبل الآخر في الانتخابات هو النخب. والمقصود النخب السياسية، ونخب بيروقراطية الدولة، والنخب الاقتصادية، والإعلامية، والعسكرية. ولفظ النخبة، هنا، لا يعني الصفوة، ولا تشي بالضرورة بالرقي والتحضّر، بل يُشتَق بالمكانة والتأثير. فقط أقلية في أوساط هذه النخبة قبلت العملية الديمقراطية، وما تأتي به من نتائج، أو على الأقل فكرة تقاسم السلطة والقبول بشركاء جدد مختلفين. وفي حالة بعض القوى السياسية المعارضة للنظام القديم، تغلّب الخوف من الآخر المختلف على الموقف من النظام القديم، فكانت مستعدة للتحالف معه ضد الجديد. أما القسم الآخر من المعارضة، والذي لم ينتم إلى النخبة السياسية والبيروقراطية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية، وهو الأحزاب الدينية، فرأى في الثورات وانهيار الاستبداد فرصته التاريخية، فهو المطروح بديلاً تاريخياً له. هو البديل، وليس الديمقراطية كنظام. لقد أصرّ على ثنائية الاستبداد أو الحركات الدينية، وهي ثنائية النظام القديم، ولم يرتق إلى قبول الديمقراطية نظام حكم، ومنظومة من القيم والسلوكيات. وكان الطريق الوحيد أن ترتقي الحركات الدينية إلى ذلك بالشراكة مع القوى الديمقراطية وليس التنافس. ولا سيما في مرحلة ما زالت فيها عناصر قوة النظام القديم قائمة. إن الذي استنفر العنصر المحافظ القائم في الثقافة الشعبية، والخوف من الغريب غير المألوف، والخضوع للظلم خوفاً من الفوضى هو النخب السياسية والبيروقراطية والاقتصادية والعسكرية في جهاز الدولة، والنخب السياسية والثقافية في المعارضة، باتجاهاتها التقليدية كافة. ولعب الإعلام دور الأداة، وغالباً من دون مسؤولية مهنية. وتمثلت الفضيحة الكبرى وفجيعتنا بالنخب المعارضة في أنها لم تمر بعملية تغيير قيمي ديمقراطي في أثناء وجودها في المعارضة. فما زالت هذه النخب تفضل رجلاً عسكرياً أو وزير داخلية سابقاً من النظام القديم حتى على بديل لها من صفوفها، وتفضل الحرب الأهلية على التحاور، أو التحالف، مع الآخر المختلف في دول أخرى. في هذه الظروف، عبّأت النخب المعارضة الشارع ضد خصومها من المعارضة، لكنها لم تكسب ثقته، بل أعدّته لقبول عودة النظام القديم. ثمة فئات واسعة من الشباب منحت الوسائل الديمقراطية فرصة لتغيير الواقع البائس في دولها. هؤلاء الشباب يشعرون، الآن، بخيانة النخب. ولا بد أن يدفع العنف الممارس من النظام القديم، في عودته الانتقامية، بعض هؤلاء إلى أحضان قوى إرهابية متربصة، من خارج بنية الدولة. فعنف العودة يفوق التصور. هذه مرحلة دموية عابرة، لا شك في ذلك. ومن أهم مظاهرها مأساوية شعور شباب الميادين العربية الذين مثلوا أجمل ما في الأمة بخيانة النخب لهم، وعدم قدرتهم على الدفاع عن منجزات الثورات، لأن الصراع القائم يهمشهم، بعد أن تحول إلى صراع بين قوى غير ديمقراطية هو أشبه بالحروب الأهلية، أو بصراع الهويات، في أفضل الحالات، منه بالثورات. مرحلة حكم الشباب الوطنيين الديمقراطيين آتية، ولو بعد حين، وسيكون عليهم، في هذه الأثناء، أن يجهزوا أنفسهم وتنظيمهم بإدراك حجم المسؤولية.