مكة أون لاين - السعودية فئة المتدينين في السعودية تشكل قطاعًا واسعًا يضم فئات مختلفة في التخصص العلمي والمهني ذكورًا وإناثًا، وغالبيتهم مصدر التلقي لديهم هو الخطاب الديني الذي يلقى في خطب الجمعة، وفتاوى علماء الدين، والمحاضرات والدروس، والبرامج الإعلامية ذات المحتوى الديني التي تبث في قنوات إسلامية مخصصة للشارع السعودي، وقد ساهم هذا الخطاب بتكوين ذهنية متدينة ذات خصائص هي مجال واسع للدراسة، وهذا المقال يلقي الأضواء على مظهر واحد من مظاهر تلك الذهنية؛ إذ تعاني تلك الذهنية من رهاب مرضي من (العلمانية)، فهي تفسر كل ما يطرح في الإعلام مما لا يتفق مع رؤاها الدينية، وكل نقدٍ يُوجَّه لها، وكل ما يستجد من مشاريع على مستوى الدولة مما يتفق مع رؤيتها الدينية كمشروع الابتعاث، ومشروع سن قوانين تجرم التحرش؛ تفسر ذلك كله على أنه من نتائج الكيد العلماني للأمة، وأنه مؤامرة من قوى سلطوية وتيارات فكرية علمانية تحاربها، وتحاول إخراجها من حالة التدين، ولهذا فهي تتعامل مع وقائع المجتمع وأحداثه بعقلية (الأقلية) المستهدفة والمضطهدة، التي تتلقى الحملات من الإعلام، والضربات من العلمانيين المنظمين، فما السبب في وجود حالة الرهاب المرضي من العلمانية، والشعور بشعور الأقلية المضطهدة؟!. فيما يبدو لي أن السبب كامنٌ في بنية الخطاب الديني المتأثر بالحركية الإسلامية؛ إذ إن نشأة الخطاب الديني في العالم العربي وفي مصر والشام خاصة في ثلاثينات إلى خمسينات القرن الماضي كان ردًّا على تسَيُّد خطابات علمانية ويسارية وقومية في واقع تلك المجتمعات، مما دفع بالخطاب الديني للحركات الإسلامية الناشئة آنذاك إلى أن يتمحور حول الحديث عن الهوية لتذكير الأمة بهويتها خوفا من انجرافها في هوة التغريب، ونتيجة للواقع الذي نشأت فيه تلك الحركات اصطبغ خطابها بالتعبير عن الأقلية المضطهدة والمستهدفة التي تدافع عن هويتها ومواقعها في الساحة، إلا أنه بداية من الثمانينيات بدأ الخطاب الديني يشكل حضورا قويا إلى أن كانت له الغلبة فاكتسح الساحة العربية بداية من أواخر الثمانينيات إلى اليوم وتقلص حضور الخطاب العلماني في الأوساط الشعبية، وبقي متشبثا ببعض المواقع الرسمية في كثير من الدول العربية، وهنا يفترض - بداهة - أن يعبر الخطاب الديني عن نفسه بصفته خطاب الأكثرية الشعبية إلا أن المتابع للأطروحات الإسلامية سواء كانت مؤلفات أم مقالات أم اهتمامات يلحظ أن هذا الخطاب ما زال يعبر عن فكر الأقلية ويتعامل مع كثير من مخالفيه بتوتر مفتعل على أنهم من المعسكر العلماني، ويصور نفسه على أنه مضطهد، هذه الخاصية في بنية الخطاب الحركي للحركات الإسلامية ورثها الحركيون الإسلاميون في السعودية مع اختلاف واقع المجتمع السعودي عن الواقع التاريخي الذي نشأت فيه تلك الحركات الإسلامية في الشام ومصر، فمع هزالة الحضور العلماني في الواقع السعودي إلا أنه يحدث رهابًا مخيفًا للخطاب الديني في السعودية، وهذا الرهاب دفع الخطاب الديني للإحساس بأنه مهدَّد، ولهذا حصر الخطاب الديني نشاطه بأمرين؛ الأمر الأول: كثرة مهاجمة العلمانية والتهويل من حضورها في الوسط السعودي، والكشف عن مؤامراتها، وأهدافها، ورموزها، والأمر الثاني: حصر اهتمام الخطاب الإسلامي في الشأن الديني فقط، ولهذا يندر حضور الهم الدنيوي في الخطاب الإسلامي في واقعنا المحلي؛ فقلما يتطرق المتدينون الإسلاميون إلى مشاكل التنمية كالحديث عن البطالة، والتخصيص، وأزمة الصحة، والتعليم والبنية التحتية، وتلوث البيئة، والفساد الإداري، والتنمية السياسية وغيرها، وقلما يحظى بالحظوة والرمزية لدى جمهور المتدينين من يحمل الهم الدنيوي في قضايا المجتمع التنموية؛ إذ الأغلبية مهمومة بالحفاظ على هوية المجتمع الإسلامية المستهدفة بشبكة مخيفة من مؤامرات العلمانيين حسب ما يطرح في الخطاب الديني الحركي الذي يروج لدى الجمهور المتدين في واقعنا المحلي.